جربت عليهم أمراض وعقاقير.. سجناء أميركيون يطالبون بتعويضات
سلطت صحيفة فرنسية الضوء على ما وصفته بأنه تاريخ أكبر مصنع للتجارب البشرية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث استخدم سجناء كفئران تجارب من خمسينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، وها هم الناجون منهم يطالبون اليوم بتعويضات مالية.
بدأ كاتب المقال ألين إم. هورنبلوم، وهو معلم ومساعد قانوني سابق في فيلادلفيا، مقاله حول هذا الموضوع بما ذكره السجين السابق هربرت رايس الذي قرر أخيرا سرد قصته بعد عقود من الصمت والانزواء، حيث يقول: “لقد استخدمنا كفئران تجارب لم يخبرونا أبدا عما كانوا يحقنوننا به، ولا ما كانوا يلطخون به ظهورنا، أو ما كانوا يجعلوننا نشربه”.
وأضاف فيما نقله المقال بصحيفة ليبراسيون Liberation: “لقد خدعونا واستغلونا وكسبوا الملايين على ظهورنا، فأصبحوا كلهم أثرياء، أما نحن فلم نخرج سوى ببضع قطع من النقود وندوب قذرة وكوابيس، إنهم مدينون لنا بالتعويض، بل بالتعويض الهائل”.
ويعلق هورنبلوم على ذلك بقوله إن هذا الرجل الأميركي الأفريقي البالغ من العمر 78 عاما غاضب وحق له أن يغضب، مشيرا إلى أنه اختار طيلة 55 عاما أن يلتزم الصمت خوفا من العار، لكنه “الآن غاضب”، وقد قرر أخيرا الحديث علنا عما ألم به.
ويضيف الكاتب أن هربرت رايس حكم عليه في قضية سرقة صغيرة ليوضع خلف القضبان، في قلب أحد أغرب السجون الأميركية، إنه سجن هولمزبورغ، أقدم سجن في فيلادلفيا وأكثرها إثارة للجدل، إذ أصبح دون صخب في عام 1951 أكبر مصنع للتجارب البشرية في الولايات المتحدة، لا شيء يضاهيه، حتى نهاية القرن العشرين، من حيث عدد البروتوكولات العلمية، والأشخاص الذين خضعوا للتجارب وسنوات الاستخدام.
رايس: لقد خدعونا واستغلونا وكسبوا الملايين على ظهورنا، فأصبحوا كلهم أثرياء، أما نحن فلم نخرج سوى ببضع قطع من النقود وندوب قذرة وكوابيس، إنهم مدينون لنا بالتعويض، بل بالتعويض الهائل
ويبرز الكاتب أن هذا السجن ظل لأكثر من 20 عاما مركزا يتفاجأ كل من يدخله برؤية عشرات السجناء وهم يتجولون في الممرات، وقد وضعوا ضمادات شاش وأشرطة لاصقة، ويندهش المرء حين يعلم أن هذه الإصابات المحيرة ليست نتيجة حرب عصابات في ساحة التمرين أو معارك بالسكاكين في أجنحة السجن، وإنما هي حصيلة طيف واسع من مشاريع البحث الطبي، التي نفذها طبيب أمراض جلدية بارز وجامعة بنسلفانيا المرموقة.
الدكتور المذكور هو ألبرت إم كليغمان، وهو محاضر متميز وراوي قصص موهوب ورياضي جامعي سابق، اشتهر بإبداعه الريادي ومهنيته، وقد قام بمفرده بتحويل سجون فيلادلفيا إلى ملاحق لكلية الطب بجامعة بنسلفانيا، وفي زيارته الأولى لهولمزبورغ في عام 1951، رأى في هؤلاء “المئات من الرجال الأميين العاطلين” مواضيع بحثية في المستقبل، متحدثا عن هؤلاء الناس الذين اختصرهم، دون أدنى احترام، إلى “هكتارات من الجلد”: “شعرت وكأنني مزارع يبحث عن حقل خصب لأول مرة”.
ويوضح الكاتب أن دراسة أجريت عام 1958 تذكر أن عشرات السجناء تم تلقيحهم بالفيروسات الخارجية للجلد مثل الثؤلول، وجدري البقر، والهربس البسيط، والهربس النطاقي، وأجريت التجارب على رجال أصحاء، تتراوح أعمارهم بين 20 و 45 عاما، تطوعوا للتلقيح عدة مرات، حيث يتم إجراء 47 تطعيما بفيروس الثؤلول على 7 متطوعين في مناطق مختلفة من الجلد (الساعد، وراحة اليد، والظهر، والوجه، وفروة الرأس، والقضيب)، وقد أصيب جميع المتلقين بمرض واحد على الأقل، وبعضهم بمرضين في أماكن مختلفة.
ويشير إلى أن المقالات العديدة التي نشرها الدكتور كليغمان في المجلات المتخصصة وسلط فيها الضوء على استخدام “المتطوعين البالغين في السجن” في التجارب جعلت عددا لا يحصى من كيانات القطاعين الخاص والعام يتهافتون عليه لإجراء تجارب سريرية، وهم مستعدون للدفع بسخاء مقابل خدماته.
عشرات السجناء تم تلقيحهم بالفيروسات الخارجية للجلد مثل الثؤلول وجدري البقر والهربس البسيط والهربس النطاقي
ويضيف الكاتب أن الإغراءات المالية دفعت كليغمان لاختبار جميع أنواع المنتجات، من صبغات الشعر والشامبو ومعاجين الأسنان وأحمر الشفاه ومزيلات العرق والكريمات المضادة للفطريات.
والأدهى والأمر، حسب هورنبلوم، هو أن السجناء الذين يخضعون لهذه التجارب لا يذكر لهم شيء عن مخاطرها المحتملة، فلا أحد منهم يعلم، مثلا، أن الحقن التي يتلقونها هي نظائر مشعة.
ويقول الكاتب إن الباحثين كانوا يتمتعون في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية بحرية هائلة وجو من أخلاقيات عدم التدخل، وهو ما يتحدث عنه الدكتور كليغمان بكل سرور قائلا: “كانت الأمور أبسط.. لم يكن أحد يسألني عما كنت أفعله.. لقد كان وقتا رائعا.”
ويلفت الكاتب إلى أن ثمة قواعد وإرشادات أخلاقية بشأن هذه التجارب، لكن المجتمع الطبي الأميركي آثر عدم احترامها، إذ لا تُفرض أي عقوبة في حالة اللجوء إلى الأشخاص المستضعفين مثل الأيتام أو المرضى عقليا أو السجناء، في إطار التجارب السريرية. وهذا ما استغربه الكاتب خصوصا أن القانون الأميركي صارم في هذا الجانب، فهو يفرض أن يعطي الأشخاص الذين تتم التجربة عليهم موافقتهم الطوعية وأن يمارسوا حرية الاختيار، دون تدخل أي عنصر من عناصر القوة والاحتيال أو الخداع أو أي شكل آخر من أشكال الإكراه.
السجناء الذين يخضعون لهذه التجارب لا يذكر لهم شيء عن مخاطرها المحتملة، فلا أحد منهم يعلم، مثلا أن الحقن التي يتلقونها هي نظائر مشعة
ويضيف الكاتب أن الأمر استغرق وقتا طويلا من الضغط العام والتقارير الصحفية التي تنتقد ما قامت به الجامعة ومدينة فيلادلفيا والمتواطئون الآخرون معها في تجارب السجن على إصدار اعتذار أخيرا.
وفي أغسطس/آب 2021 قالت ولاية بنسلفانيا: “تعتذر الجامعة عن المعاناة التي سببها عمل الدكتور كليغمان للمشاركين وأسرهم والمجتمع كله”. وبعد عام من ذلك، أعلنت مدينة فيلادلفيا أنها “تعتذر رسميا لمن تعرضوا لمعاملة غير إنسانية وحقيرة” أثناء سجنهم في منشآت فيلادلفيا الإصلاحية.
وخلص الكاتب إلى أن الأمر استغرق 50 عاما للحصول على اعتذار عن استخدام النزلاء كفئران تجارب، مما يعني أنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الكفاح من أجل التعويضات سيكون أسهل.