ما دوافع تنامي دور البحرية الهندية قرب باب المندب؟
عقب اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، سُلطت الأضواء على البحر الأحمر ومضيق باب المندب إثر بدء جماعة أنصار الله (الحوثيين) في شن هجمات على السفن المتجهة لإسرائيل أو التي يملكها رجال أعمال إسرائيليون.
ورد عليه الجيش الأميركي بتدشين عملية “حارس الازدهار” وشن ضربات رفقة الجيش البريطاني ودول أخرى ضد أهداف متنوعة في اليمن.
ووسط لهيب الاشتباكات حدث تطور هادئ يحمل دلالات مهمة، وهو نشر البحرية الهندية للمرة الأولى أسطولا ضخما يتكون من 12 سفينة حربية بخليج عدن وبحر العرب.
وبذلك يصبح للهند أكبر وجود عسكري بحري في تلك المناطق، وبمقدار يفوق ما سبق أن نشرته منذ عام 2008 بدعوى التصدي لعمليات القرصنة أمام السواحل الصومالية، والتي اقتصرت عادة على نشر سفينة واحدة على الأقل.
دوافع الانتشار البحري
تبرر نيودلهي النشر الكثيف لسفنها الحربية بالأسباب التالية:
- ضمان حرية الملاحة عبر الممرات المائية الإستراتيجية، وحماية عمليات الشحن التجاري، وبالأخص بعد أن تعرضت ناقلة المواد الكيميائية “تشيم بلوتو” التي يملكها رجل أعمال إسرائيلي، لهجوم في 24 ديسمبر/كانون الأول 2023 على بعد 200 ميل بحري من ساحل ولاية غوجرات الهندية خلال توجهها من السعودية إلى الهند.
- مواجهة عمليات القرصنة التي عادت مؤخرا قرب الصومال، والتي يعزوها بعض المراقبين إلى تحول التركيز الأمني إلى البحر الأحمر وتراجع الوجود العسكري البحري عقب انتهاء مهمة حلف الناتو لمكافحة القرصنة عام 2016، وبهذا الصدد تشير دراسة لمؤسسة مراقبة البحوث ومقرها نيودلهي لوجود تنسيق بين القراصنة في الصومال، والحوثيين باليمن، لتكثيف أنشطتهم للضغط على حركة الشحن العالمي ردا على حصار غزة.
وقد نشرت البحرية الهندية عقب الهجوم على الناقلة “تشيم بلوتو” مدمرات وفرقاطات وطائرات دورية ومسيرات في المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن.
وعمليا، ساهمت قوات مشاة البحرية الموجودة على متن المدمرة “آي إن إس تشيناي” -في 5 يناير/كانون الثاني- في إنقاذ طاقم سفينة تحمل علم ليبيريا خلال توجهها من البرازيل إلى البحرين، عقب تعرضها للاختطاف على بعد 850 كيلومتراً من ساحل شرق أفريقيا.
كما أغاثت سفينة حربية هندية سفينة شحن بريطانية أصيبت بصاروخ أطلقه الحوثيون في 26 يناير/كانون الثاني، وكذلك نهاية ذات الشهر أنقذت سفينة دورية هندية سفينتين إيرانيتين تعرضتا للاختطاف قبالة سواحل الصومال.
مؤشرات
وعلى المستوى الإستراتيجي، يمثل نشر نيودلهي هذا العدد الكبير من السفن الحربية مؤشرا على حجم التغير في سياستها الخارجية التي ركزت سابقا على الداخل الهندي لضمان وحدته فضلا عن الصراع مع باكستان.
كما يبرهن على المضي في سياسة “التوجه نحو الخارج” لإثبات القدرة على العمل كمزود للأمن في الجوار الإقليمي، وهو ما يتواكب مع تنامي قدرات الهند الاقتصادية التي تؤهلها للعب دور أكثر حضورا على المسرح العالمي.
وهي دعوة لدول العالم للالتفات إلى هذا البلد النووي الذي يسكنه نحو 1.4 مليار شخص، ويمثل سدس البشر بعد أن تجاوز عدد سكان الصين.
مخاوف هندية
تتمثل المخاوف الهندية التي دفعت نيودلهي إلى هذه التمدد العسكري البحري في:
- 1- القلق من الصين
تعتمد الصين على واردات الطاقة من الخليج العربي، والتي تعبر مضيق هرمز والمحيط الهندي ومضيق ملقا ثم بحر جنوب الصين قبل أن تصل إلى الشواطئ الصينية، وهو ما دفعها لبناء وتطوير سلسلة من الموانئ على طول ساحل المحيط الهندي وشرق أفريقيا، في باكستان وميانمار وبنغلاديش وسريلانكا وجيبوتي.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد دشنت الصين أول قاعدة عسكرية بالخارج في جيبوتي عام 2017، بهدف الحفاظ على أمن الطاقة الخاص بها، وقد أدت تلك التحركات إلى تنامي المخاوف الهندية من احتمال تخطيط بكين لعسكرة تلك الموانئ في حال اندلاع حرب، بما يتيح لها السيطرة على خطوط الاتصالات البحرية الحيوية، وهي مخاوف تزامنت مع حدوث مواجهات حدودية صينية هندية في “دوكلام” عام 2017 وإقليم لاداخ عام 2020.
ونظرا لأن الهند لا تملك قواعد بحرية في الخارج مما يحد من قدرتها على تنفيذ عمليات طويلة الأمد بالمياه العميقة، فقد تبنت السنوات الأخيرة سياسة دفاعية نشطة تقوم على تدشين شراكات لوجستية مع دول صديقة.
كما سعت نيودلهي لتعزيز التحالفات مع القوى الكبرى والإقليمية، فانضمت للحوار الأمني الرباعي “كواد” مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا عام 2017، وشاركت كعضو منتسب عام 2022 بالقوة البحرية المشتركة بقيادة واشنطن لتأمين الملاحة بالخليج، ثم انخرطت في تجمع “12يو2” (I2U2) مع واشنطن وأبو ظبي وتل أبيب، والذي تأسس كتحالف اقتصادي ولوجستي عام 2022.
- 2- تأمين مصادر الطاقة
تستورد الهند 86.7% من النفط الخام و53.4% من الغاز الطبيعي، الذي تستهلكه، وتستورد 38% من إجمالي وارداتها النفطية، و73% من إجمالي وارداتها الغازية من دول مجلس التعاون الخليجي.
وبالتالي فإن أي اضطراب في الوضع الأمني بالخليج والبحر الأحمر من شأنه أن يؤثر بشكل مباشر على المصالح الاقتصادية والأمنية للهند، وبالتحديد على أمن الطاقة وحركة التجارة الهندية مع أوروبا.
وعقب حرب الخليج الثانية عام 1991، اعتمدت الهند على الولايات المتحدة في ضمان حرية الملاحة بالخليج ومضيق هرمز، ولكن مع تنامي القدرات الاقتصادية والعسكرية الهندية، بدأت واشنطن في النظر لها كثقل موازن للصين بمنطقة المحيطين الهادي والهندي، ولذا شجعتها على نشر سفنها الحربية بالمنطقة، وقدمت لها أوجها من الدعم اللوجستي والاستخباري.
الشراكة الهندية مع إيران
رغم العلاقات المتنامية للهند مع الولايات المتحدة، ومركزية نيودلهي في سياق التنافس الأميركي الصيني، فإن الهند غير حريصة على الاصطفاف ضمن المعسكر الغربي، وتفضل الاحتفاظ باستقلالها الإستراتيجي تطبيقا لمبدأ “الهند أولا”.
وتجلى ذلك في استمرار علاقتها مع إيران، حيث تنخرط في مشروع إنشاء الممر الدولي “شمال جنوب” الذي يمتد من موانئ الهند إلى ميناء بندر عباس جنوب إيران، ثم إلى شمال أوروبا عبر الأراضي الروسية.
كما تنسق نيودلهي مع طهران في الملف الأفغاني لموازنة الدور الباكستاني، وتدعم عمل ميناء تشابهار في بلوشستان الإيرانية كبوابة بحرية لدول آسيا الوسطى مقابل دعم الصين لميناء غوادر في بلوشستان الباكستانية.
وتدعم الهند الموقف الإيراني الأرميني بخصوص ممر زانجيزور جنوب القوقاز في مواجهة التحالف التركي الأذري المدعوم من إسلام آباد.
وفي ظل تلك المصالح المشتركة الهندية الإيرانية، رفضت نيودلهي المشاركة بعملية “حارس الازدهار” في البحر الأحمر برعاية واشنطن، لتجنب الانخراط في مسار يتعلق بالحرب على غزة أو يتسبب في الاحتكاك مع الحوثيين أو إيران.
كما أوفدت الهند وزير خارجيتها سوبرامانيام جايشانكار في زيارة لطهران لمدة يومين في يناير/كانون الثاني 2024 لبحث تطورات الحرب في غزة، والتوتر بالبحر الأحمر، وعبر جايشانكار عن موقف بلاده قائلا “هذا الوضع المشحون ليس في صالح أي طرف”.
وتوضح زيارة الوزير الهندي لإيران أن بلاده لم تقتصر على نشر سفنها الحربية بالمنطقة، إنما مزجت ذلك بتنشيط علاقاتها الدبلوماسية لتأمين مصالحها وتجنب الاصطدام بأطراف الصراع. وهي خطوات تشير إلى حضور الهند بشكل أكبر في ملفات الشرق الأوسط، وتحولها التدريجي إلى طرف فاعل في ملفاته.