السلطان عبد الحميد.. الجامعة الإسلامية بمواجهة مشروع تفتيت الدولة
في كتابه “المسألة الشرقية” الذي صدر سنة 1898، يقف الزعيم المصري الشاب مصطفى كامل شارحا مخططات الدول الأوروبية ضد الدولة العثمانية، ومتتبعا أصل مشروع “المسألة الشرقية”، الذي أجمع من خلاله الأوروبيون والروس بمختلف أعراقهم وأديانهم على غاية واحدة وهي تقسيم الدولة العثمانية، لأسباب منها الدينية ومنها الثقافية ومنها الاستعمارية الاقتصادية.
المسألة الشرقية وتدمير الدولة العثمانية
ويُرجع مصطفى كامل أصل هذه المشكلة “المسألة الشرقية” إلى القرن الـ18 الميلادي، حين بدأت الدولة العثمانية تدخل في حالة من الضعف والهزائم العسكرية، فقد “رأت الدولة العثمانية ما لم تره دولة من دول الأرض القديمة والحديثة، فقد كانت تتحالف معها بعض الدول كالنمسا، وتعمل وهي متحالفة معها على الاتفاق مع روسيا على تقسيمها، وقد كانت تتظاهر إنجلترا لها بالصداقة والوفاء وتسعى وهي متظاهرة كذلك على ضياع أملاكها من يديها وسقوطها في قبضتها”.
كان التنافس الأوروبي-الأوروبي، والأوروبي الروسي على أشده حينئذ، فهم متفقون على الغاية، ولكنهم في الوقت نفسه متخوّفون من بعضهم بعضا، ولدينا العديد من الأمثلة التاريخية التي وقفت فيها فرنسا وبريطانيا مع الدولة العثمانية ضد الروس، والعكس أيضا صحيح، فقد كان الجميع يخشى من الجميع، إذ إن سقوط الدولة العثمانية واحتلال أراضيها قد يؤدي إلى نتائج غير معلومة، فقد تأخذ روسيا نصيب الأسد، وتحتل إسطنبول، وتستولي على مضيق البوسفور، وتتحكم في شرق المتوسط، ويصبح هذا المآل خطرا كارثيا على نفوذ القوى الإمبريالية الأخرى وخاصة بريطانيا وفرنسا.
وفي سبيل فهم “المسألة الشرقية”، كُتبت عشرات الكتب والأبحاث في كل العواصم الأوروبية تقريبا؛ بل إننا وجدنا منظّر الشيوعية العالمية كارل ماركس يكتب سلسلة من المقالات هو الآخر عن “المسألة الشرقية” في القرن الـ19.
وكان ماركس يعيب على الحكومات الغربية لا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرهم جهلهم بحقيقة هذه المسألة التي قتلوها بحثا وكلاما، وكان يرى أن الخطوات العملية للروس لهدم الدولة العثمانية على أرض الواقع سواء بدعم الأرثوذكس في اليونان أو صربيا أو الأرمن أقوى من الجهل المطبق، والخرافات التي يعيش فيها الأوروبيون.
كتب في إحدى مقالاته أثناء حرب القرم سنة 1853، يقول “على الرغم من التقليد الدبلوماسي فقد انتهى التوسع الروسي الثابت والناجح إلى توليد فكرة سطحية ومبهمة داخل وزارات القدرات الغربية في أوروبا مفادها أن هناك خطرا ما يحضّر، ولّدت هذه المخاوف وأنضجت هذا المفهوم الدبلوماسي الطريف الذي مفاده أن المحافظة على الوضع القائم في تركيا شرط ضروري للسلم العالمي”.
ويتهكّم ماركس من هذا الفهم السطحي للأوروبيين “المحافظة على الوضع الراهن” الذي يشبهه بـ”الميثاق الكبير” الذي أعطاه الملك جون للإنجليز في القرن الـ12 كحقّ من حقوقهم، “فمن أَجل المحافظة على الوضع القائم بالتحديد دبّرت روسيا الثورة في الصرب، وجعلت اليونان مستقلة، وحازت على حقّ حماية ملدوفيا وفلاشيا، وضمّت إليها قسما من أرمينيا، وبينما كل ذلك يجري لم تُبدِ إنجلترا وفرنسا أي حركة اللهم إلا عام 1849م حين عملت ليس على المحافظة على تركيا بل على اللاجئين المجريين”.
كانت صرخة ماركس وكثير من المثقفين والسياسيين الأوروبيين في ذلك الحين تحضهم على تطوير مفهوم “المسألة الشرقية” النظري إلى المسارعة في تدمير وتفكيك الدولة العثمانية وإعطاء الشعوب الأوروبية فيها حق الاستقلال، وكذلك احتلال واستعمار الشعوب المسلمة، وأن تفتيت الدولة العثمانية هدف مقدّم على المخاوف غير المبررة من القوة الروسية الصاعدة، كما كان ينصحهم ماركس من قلب لندن التي هاجر إليها من ألمانيا في خمسينيات القرن الـ19.
مشروع الجامعة الإسلامية
حين ارتقى السلطان عبد الحميد الثاني إلى عرش الدولة العثمانية بعد مقالة ماركس هذه ببضع وعشرين سنة وتحديدا سنة 1876م، كانت الدولة في حالة من الاضطراب الداخلي والخارجي، فقد قُتل عمّه السلطان عبد العزيز وخُلع أخوه السلطان مراد الخامس، وكان يمسك بزمام الأمور عدد من الباشوات المؤمنين بأوروبا بصورة مطلقة، مثل مدحت باشا رئيس الوزراء، بل والمتحمّسين للمشروطية (الملكية الدستورية) وإعلان الدستور الجديد وإقامة البرلمان بمختلف ملل وأعراق الدولة العثمانية، وتجريد سلاطين العثمانيين من اختصاصاتهم.
الأمر اللافت أن المشروطية تحقّقت بالفعل في السنتين الأوليين من حكم السلطان عبد الحميد، وكان قرار البرلمان (المبعوثان) غريبا حين أقحم الدولة والجيش في دخول حرب ضد الروس وهي الحرب التي سُمّيت بحرب 93، والتي استمرت لمدة عامين بين 1876-1878م وترتّب عليها خسارة الدولة العثمانية لقبرص ودفع غرامة مالية ضخمة ظلت الدولة تدفعها لسنوات طويلة لصالح الروس.
وقد حيكت مخطّطات غربية وروسية في بنية الدولة العثمانية داخليا بصناعة نخبة من الساسة والمثقفين الموالين تماما للمصالح والأفكار الغربية، وخارجيا بالتآمر على تدمير وتفكيك وإثارة الثورات والأعراق المسيحية والبلقانية والأرمينية والكردية والعربية ضد إسطنبول.
وأمام هذه المؤامرات، أدرك السلطان عبد الحميد الثاني أنه بحاجّة ماسّة لدرع حصين يتدرّع بها في مواجهة هذه الأخطار الماحقة التي تهدد الدولة، أو ما تبقى منها بعد فقدان المجر وشمال البحر الأسود ورومانيا والقوقاز واليونان وصربيا والجزائر ومصر وتونس.
لكل هذه الأسباب وجد السلطان عبد الحميد في فكرة الجامعة الإسلامية سبيلا لتعويق هذا الهجوم الغربي الساحق على الدولة العثمانية، ومقاومة فعّالة في إعادة توحيد عناصر الدولة العثمانية بل عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وكان أول من دعا إلى هذه الفكرة هو الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي آمن بالوحدة العضوية لعموم المسلمين أمام التحديات الفكرية والسياسية التي تواجههم من قبل المحتل الغربي. ولاحقا اختلف السلطان عبد الحميد مع جمال الدين الأفغاني في رؤيته لمسألة الوحدة الإسلامية.
مواجهة التحديات
وكما يقول المفكر المصري الدكتور محمد عمارة في كتابه عن “الجامعة الإسلامية والفكرة القومية” فإن التخلف الفكري والروحي والانحدار الحضاري والسياسي والصراعات الإقليمية والقبلية أو تلك الآتية من الخارج في شكل المد الاستعماري والإمبريالي الذي زحف من أوروبا على الشرق، كان مَن أبصرها مبكرا وأدرك خطورتها هو ذلك التيار الفكري والسياسي من قادة ومفكرين مسلمين جمعهم الحرص على الوقوف أمام هذه التحديات الكبيرة.
ويقول عمارة أيضا “ذلك هو الوصف العام لتيار الجامعة الإسلامية، الفكري والسياسي كما عرفه الشرق في ذلك التاريخ (أواخر القرن الـ19)، ولكن وحدة هذا الشعار لم تخف في يوم من الأيام عن عين الباحث المتأمل تلك الفروق الجوهرية التي جعلت في الحقيقة والواقع من تيار الجامعة الإسلامية عددا من التيارات، بينها من عوامل الاختلاف والتمايز أحيانا أكثر مما بينها من أوجه الوفاق والاتفاق”.
وقد تلاقت أفكار الإصلاحيين المسلمين الكبار وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني وكبار مشايخ الطرق الصوفية مثل أبو الهدى الصيادي ورحمة الله الهندي ومحمد ظافر المدني والسنوسي وغيرهم من علماء ومشايخ الهند والصين وأفريقيا. لقد رأى أن إصلاح الدولة ممكن، بل أمسى ضرورة مقابل الاتجاه إلى الخارج لطلب الإصلاح.
ومن ثم قرر السلطان عبد الحميد الثاني أن يقف أمام الأطماع الغربية في الأقطار الإسلامية من خلال “تكتيل المسلمين على كلمة واحدة وشعور واحد” على حد وصف المؤرخ محمد حرب.
والحق أن السلطان عبد الحميد لم يكن يهدف إلى إقامة رابطة سياسية تضم كل بلاد المسلمين في وحدة سياسية واحدة، وإنما أراد جمع شعور المسلمين في حركة واحدة تؤكد وحدتهم وتقويهم في مواجهة أعدائهم، ومن ثم يستطيع أن يقف أمام الموظفين الحكوميين العثمانيين الذين تشربوا الثقافة الغربية وأصبحوا يعملون سرا وعلانية ضد مصالح الدولة، وضد سعيه لإعادة إحياء الدولة العثمانية من منظور “الخلافة”، الذي سيعطيها قبلة الحياة، ويجعلها ملاذ المسلمين في جميع أرجاء العالم وآمالهم.
وإذا تحققت هذه الغاية فستقف القوى الأوروبية وروسيا عند حدودها، وسيخشون إثارة هذا العالم الإسلامي الذي أمسى موحّدا ومتكتّلا ومدركا ألاعيب القوى الغربية وروسيا وأهدافهم، وقد أشار المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى هذه المآلات حين قال إن “السلطان عبد الحميد كان يهدف من سياسته الإسلامية تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادّة يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين”.
الجامعة الإسلامية والصوفية
ومن أجل تحقيق هذا المشروع اعتمد السلطان عبد الحميد على عدة أدوات كان على رأسها كبار العلماء والدعاة مثل السيد جمال الدين الأفغاني والزعيم المصري مصطفى كامل والشيخ أبو الهدى الصيّادي من سوريا. ومن سيبيريا الشيخ عبد الرشيد إبراهيم.
كما اعتمد على الطرق الصوفية في المشرق والمغرب، وحرص على بعث روح التعريب في الدولة العثمانية ونشر العلوم الإسلامية ومراكز الدراسات الإسلامية، وأكثر من خدمة الحرمين الشريفين، ومن الناحية اللوجيستية حرص على تسهيل لقاء المسلمين ببعضهم بعضا من خلال الاهتمام بوسائل المواصلات، وإنشاء سكة حديد الحجاز وبغداد.
كانت الطرق الصوفية من أهم الوسائل التي اعتمد عليها السلطان عبد الحميد في تحقيق مشروع الجامعة الإسلامية، واستطاع أن يعمل رابطة بين مقر الخلافة في إسطنبول وبين زوايا هذه الطرق في كل أنحاء العالم الإسلامي، واتخذ من حركة التصوف الإسلامية وسيلة للدعاية للجامعة الإسلامية، وتكونت في إسطنبول لجنة مركزية من علماء وشيوخ الطرق الصوفية الذين عملوا في الوقت نفسه مستشارين للسلطان فيما يخص هذا المشروع.
كان منهم الشيخ أحمد أسعد وكيل الفراشة الشريفة في الحجاز، والشيخ أبو الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية، والشيخ محمد ظافر الطرابلسي شيخ الطريقة المدنية، كانوا من أبرز أعضاء هذه اللجنة المركزية للجامعة الإسلامية، وكان معهم آخرون، وأُنشئت لجان فرعية لهذه اللجنة المركزية في كافة بقاع الدولة العثمانية وخارج حدودها أيضا، من أهمها تلك التي كانت في مكة المكرمة تحت رعاية شريف مكة ومهمتها نشر مفهوم الجامعة الإسلامية في موسم الحج، وأنشئت أخرى في بغداد كانت تقوم لذات الغرض بين أتباع الطريقة القادرية وزوّار مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة التي كان يزورها آلاف سنويا من كل مكان ولا سيما المريدين القادمين من شمال أفريقيا.
وأُسست أيضا لجان فرعية في شمال أفريقيا كانت تعمل في سرية مطلقة، عملت على تنسيق العمل بين الجماعات الدينية والصوفية هناك لمقاومة الاحتلال الفرنسي وهذه الجماعات هي الشاذلية والقادرية والمدنية، وبلغ من نفوذ هذه الحركة أن وصفتها إدارة المخابرات الفرنسية في شمال أفريقيا في بعض الوثائق السرية بقولها “يمكن للسلطان عبد الحميد -بصفته رئيسا للجامعة الإسلامية- أن يجمع من خلال ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدينية في شمال أفريقيا جيشا منظما يتمكن -إذا لزم الأمر- من أن يقاوم به أي قوة أجنبية”.
وثائق سرية
وسنلاحظ من خلال الوثائق السرية الفرنسية التي نشرها المؤرخ التركي إحسان ثريا صيرما في بعض دراساته أن السلطات الفرنسية قد فشلت في الكشف عن العلاقة التي جمعت مسلمي شمال أفريقيا بالخلافة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني، وأمام هذا العجز عملت على إضعاف هيبة السلطان في نفوس سكان شمال ووسط أفريقيا، وإظهار قوتها العسكرية الغاشمة، وأيضا من خلال إغراء بعض شيوخ الطرق الصوفية بالمال والمناصب، والتضييق على الحجاج ومنعهم من السفر حتى لا يلتقوا بدعاة الجامعة الإسلامية في موسم الحج.
واتسع عمل اللجنة المركزية التي استطاعت التواصل مع مسلمي الهند والصين وتركستان وجنوب شرقي آسيا وجنوب وغرب ووسط أفريقيا، وهكذا استطاع مشروع الجامعة الإسلامية أن يقض مضاجع القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا من الصين في أقصى الشرق إلى أفريقيا والأطلسي في أقصى الغرب، مرورا بالهند والمنطقة العربية.
ولكن التحديات الاقتصادية والثقافية كانت عاتية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تدبير انقلاب عسكري هو الأول من نوعه في القرن الـ20 على السلطان عبد الحميد الثاني وسقطت الدولة العثمانية بسقوطه، بعد أن وقف صامدا أمام التآمر الغربي لمدة 33 عاما.