“عملية يافا” وطوفان الاستشهاديين.. كيف تُغيّر مسارات الحروب؟
مساء يوم الثلاثاء ووسط اقتراب الحرب الإسرائيلية على غزة من إتمام عامها الأول، والتصعيد الجاري في لبنان، نفذ فلسطينيان عملية وسط مدينة تل أبيب (يافا)، حيث تسللا لإسرائيل وطعنا مستوطنا واستوليا على سلاحه، ثم ما تلا ذلك هو إيقاع ما يقرب من 22 شخصا ما بين قتيل وجريح.
جاءت هذه العملية بعد يوم واحد فقط من ذكر موقع “والا” أن الجيش رفع من تأهبه على خلفية التحذيرات من وقوع عمليات انتحارية (استشهادية) قبيل الأعياد وفي ظل الضغوط التي تمارسها قوات الاحتلال على الضفة، وما صحب هذا التصعيد من اعتقال لعدد من الفلسطينيين بعدة مدن وقرى في الضفة.
وهذا التقرير ليس تحليلا لهذه العملية وتداعياتها، بل عرض تاريخي لأثر العمليات الفدائية في تغيير مسارات الحروب. وذلك عبر نماذج الكاميكازي والنمور السوداء والعمل الفدائي الفلسطيني.
العمل الفدائي
في البدء، لا يوجد تعريف محدد يصف العمل “الفدائي” بدقة ويبين حدوده، لكن المفهوم طالما استُخدم للدلالة على ذلك النوع من الأعمال “العسكرية” عالية المخاطر التي تقوم بها مجموعة أصغر وأضعف تجهيزا ضد سلطة أكبر وأفضل تسليحا، مما يجعل فرص نجاة هذه المجموعات “الفدائية” موضع شك في أفضل الأحوال.
اقرأ أيضا
list of 2 items
كيف أنهى طوفان الأقصى معارك إسرائيل الخاطفة وأقحمها في حربٍ بلا نهاية؟
“سنعيد 7 أكتوبر”.. غزة تحتفل بقصف إيران لإسرائيل
end of list
ومع ذلك فإن المعنى المتداول اليوم يشير إلى العمليات التي يُستخدم فيها الجسد بشكل مباشر أداة للحرب، وغالبا ما يُطلق عليها في الإعلام الغربيّ أو المتأثر بالثقافة الغربية اسم “الهجمات الانتحارية” (Suicide Attacks)، وهو مصطلح يشير إلى الطبيعة التقنية لهذه العمليات التي تتضمن “إفناءً للجسد”، لكنه يتجاهل الدوافع المختلفة وراءها، وأهدافها المتباينة، والأهم؛ الفوارق الأخلاقية والدينية بينها.
في الحقيقة تتباين الدوافع وراء العمل “الفدائي/الاسشتهادي”، والتي يصفها الغربيون بالانتحارية، بين الدوافع الدينية والأيديولوجية والوطنية والسياسية والعرقية، وحتى الشخصية، كما تتباين أهداف هذه العمليات بين تلك التي تحمل مغزى عسكريا في مواجهة خصم (غالبا ما يكون أكثر قوة)، سواء كان سلطة الاحتلال أو حكومة (سلطة سياسية)، وبين العمليات ذات الدوافع الانتقامية التي تنطوي على ترويع المدنيين، وهو ما يخلق بدوره تباينا واضحا بينها على الطيف الأخلاقي.
ونتيجة للتجاهل “المتعمد في كثير من الأحيان” لهذه الفوارق، وُصِمت “العمليات الفدائية” في معظم الأحيان بتهمة “الإرهاب”، في تجاهل تام لسياقاتها.
لكن، سواء كان أولئك “الفدائيون/الانتحاريون” من “الكاميكازي” اليابانيين الذين حركتهم دوافع الشرف الوطني والتحرر من ذل الهزيمة، أو من “نمور التاميل” السريلانكيين الساعين للانفصال العرقي، أو من الفلسطينيين الذين وجدوا في العمل “الفدائي” متنفسا لمقاومة سلطة احتلال غاشمة وجهادا بالبُعد الديني، فإن هذا النوع من العمليات وسيلة مفضلة في كثير من الأحيان للجهات الأضعف، لمواجهة خصوم أكثر قوة تتطلب تكتيكات “غير تقليدية” لمجابهتها.
الكاميكازي.. تكتيك عسكري مستلهم من الثقافة اليابانية
كانت اليابان موطنا لواحدة من أهم التجارب التاريخية الحديثة للعمل “الفدائي” أو استخدام الجسد بوصفه أداة للحرب، أُطلق عليها اسم “الكاميكازي”، وهو تكتيك عسكري استخدمه الجيش الياباني نهاية الحرب العالمية الثانية في العمليات الهجومية، خصوصا بين عامي 1944 و1945، حين استخدم الطيارون اليابانيون الهجمات “الانتحارية” بطائرات محملة بالقنابل للانقضاض على سفن العدو.
وتضمن هذا التكتيك تفجير الطيارين اليابانيين طائراتهم “عمدًا” في سفن الحلفاء، بهدف إحداث أقصى قدر من الضرر، رغم يقينهم بأنهم يدفعون حياتهم ثمنا لذلك.
ومثّلت هجمات “الكاميكازي” جانبًا مهمًّا من الحرب البحرية بين الولايات المتحدة واليابان، وقد اشتهرت بشكل خاص بتأثيرها المدمر على القوات البحرية الأميركية خلال حملة أوكيناوا في المحيط الهادي، التي دامت 82 يوما في الربع الثاني من عام 1945.
كان مفهوم التضحية بالنفس من أجل الإمبراطور متجذرًا في الثقافة اليابانية، تأثرًا بأخلاقيات الساموراي وقوانين بوشيدو (مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية التاريخية للمحارب الياباني) التي أكدت على الولاء والشرف حتى الموت. وجعلت هذه الخلفية الثقافية فكرة هجمات الكاميكازي جذابة كوسيلة للوفاء بواجب المرء تجاه الأمة والحفاظ على الشرف في مواجهة الهزيمة.
أكثر من ذلك، يُشتق مصطلح “كاميكازي” نفسه من تراث اليابان الثقافي، حيث كان الشعب الياباني يعتقد أن الرياح الإلهية “كاميكازي” أنقذت اليابان من الغزوات المغولية في القرن الثالث عشر.
وقد استُدعيت هذه الرواية التاريخية أثناء الحرب العالمية الثانية لتصوير طياري الكاميكازي كمدافعين عن اليابان الحديثة، مما يضفي الشرعية على أفعالهم من ناحيتي التأييد الإلهي والفخر الوطني.
يُنسب تكتيك الكاميكازي العسكري إلى الأميرال البحري ماسافومي أريما، المُشتهر بقيادته لواحدة من أقدم الهجمات “الانتحارية” ضد حاملة الطائرات الأميركية “فرانكلين” (Franklin) المشتهرة باسم “بيغ بن” بالقرب من خليج ليتي يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1944.
وقد ساعدت سمعته العسكرية والمجد الذي اكتسبه بفضل وفاته أثناء الهجوم؛ في نشر التكتيك داخل التسلسل الهرمي العسكري الياباني، مما أدى إلى اعتماده رسميًّا كإستراتيجية للجيش الياباني في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
وقد جرى تدريب طياري الكاميكازي على مهارات الطيران الأساسية والطيران التشكيلي خلال أيام قليلة فقط، وهو زمن قياسي بالمقارنة مع تدريبات الطيارين التقليديين التي تستهلك وقتا طويلا وتتطلب ميزانيات مرتفعة.
خلقت عمليات “الكاميكازي” أفضلية تكتيكية لا تُنكر لليابانيين، خصوصا في المعارك البحرية، كما وفرت فكرة العدو الراغب في الموت في المعركة “ميزة نفسية”، مما أدى إلى تعقيد إستراتيجيات الحلفاء للتعامل مع مثل هذه الهجمات.
ففي معركة أوكيناوا، أسفرت عمليات الكاميكازي التي شارك فيها أكثر من 2000 جندي ياباني وحدها؛ عن خسائر فادحة للبحرية الأميركية، بعدما نجحت في إغراق 36 سفينة حربية، وإلحاق أضرار بحوالي 368 سفينة أخرى، فضلا عن خسائر بشرية في صفوف الجيش الأميركي قدرت بنحو 10 آلاف شخص، نصفهم على الأقل من القتلى.
ورغم هزيمة اليابانيين في أوكيناوا وخسارتهم للحرب كلها لاحقا، لا يزال تكتيك الكاميكازي مثالا على الطريقة التي يمكن أن تغير بها العمليات “الانتحارية” مسار الحروب.
“النمور السوداء”.. المرأة في ثوب “الفدائي”
تُعد تجربة “النمور السوداء” في سريلانكا واحدة من التجارب التي استُخدمت فيها “العمليات الانتحارية/الفدائية” لتحقيق مكاسب سياسية، غالبا ما كانت مُحفزة بدوافع عرقية. جرى تبني هذا التكتيك من قبل جماعة “نمور تحرير التاميل – إيلام” ذات التوجه الماركسي اللينيني، المطالبة بدولة “تاميلية” مستقلة في سريلانكا.
وقد نفذت النساء نحو 30 إلى 40% من عملياتها “الانتحارية”، وهو ما سبب إرباكا شديدا في الصراع. فغالبًا يُنظر إلى النساء على أنهن أقل تهديدًا، مما يسمح لهن بتجاوز التدابير الأمنية بسهولة أكبر من الرجال.
كما تجتذب المُهاجِمات تغطية إعلامية كبيرة، مما يسلط الضوء بشكل مكثف ويساعد في انتشار الرسالة ويخلق تعاطفا محليا أكبر، ومن ثم يساعد في تجنيد المزيد من المتطوعين للعمل الفدائي.
مثلت النساء ما بين 15 إلى 30% من القوة القتالية الأساسية لجبهة “نمور تحرير التاميل – إيلام”، مما دفع الجبهة لتأسيس فرع عسكري نسائي كامل. وكان جناح العمليات “الانتحارية” أحد الأجنحة الرئيسية الثلاثة للحركة، بجانب الجناح السياسي والجناح العسكري، لما كان له من تأثير بالغ في إدارة الصراع، لدرجة أنه بين عامي 1987 و2006 نفذت “النمور السوداء” أكثر من 316 عملية من هذا النوع.
يُعد قائد ومؤسس حركة نمور التاميل، فيلوبيلاي برابهاكاران، العقلَ المدبر وراء هذا النوع العمليات، وقد لعب دورًا محوريًا في تطوير الإستراتيجيات العسكرية للمجموعة، بما فيها إنشاء وحدة الكوماندوز الانتحارية النخبوية المعروفة باسم “النمور السوداء”.
وقد وقع أول تفجير من هذا النوع في سريلانكا يوم 5 يوليو/تموز 1987، عندما اقتحمت شاحنة محملة بالمتفجرات ثكنات الجيش السريلانكي، ليسفر الهجوم عن مقتل 55 جنديا. ومثّل هذا الهجوم سابقة للاستخدام الواسع النطاق لتكتيكات الهجمات “الانتحارية” من قبل حركة نمور التاميل طوال الحرب الأهلية السريلانكية.
وكانت الحركة رائدة في استخدام الأحزمة والسترات المتفجرة، ويُنسب إليها مجموعة من العمليات المؤثرة، على رأسها: اغتيال حاكم منطقة جافنا عام 1975 على يد مؤسس الحركة، واغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي في مدينة مدراس عام 1992، واغتيال الرئيس السريلانكي راناسينغ بريماداسا عام 1993، بالإضافة إلى الهجوم على مطار كولومبو عام 2001، واغتيال وزير الخارجية السريلانكي كادريجامار عام 2005.
نتيجة لهذا النشاط عالي المستوى، تُصنِّف أكثر من 30 دولة حركة نمور التأميل ضمن الحركات الإرهابية، ومنها دول الاتحاد الأوروبي والهند، والولايات المتحدة التي أدرجت الحركة في قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية عام 2001.
وبحلول مايو/أيار 2009، قُتل زعيم الحركة برابهاكاران، واعترفت الحركة بهزيمتها أمام الحكومة السريلانكية وقررت وضع سلاحها، مُنهية بذلك حربا ضمن الأطول في القارة الآسيوية، لكن بعدما حصدت مكاسب سياسية طويلة وحظيت لفترة طويلة باعتراف الحكومة، وكان الفضل الأول في ذلك يعود للعمليات “الانتحارية” التي جذبت بها المجموعة انتباه العالم وأجبرته على الاستماع لمطالبها.
فلسطين.. صفحة جديدة قديمة في العمل المقاوم
لم تكن عملية يافا الأخيرة استثناء في تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، إذ عادة ما تستخدم حركات التحرر الوطني العمليات “الفدائية” أيضا لأجل إلحاق أكبر الخسائر في صفوف الخصم، ماديا ومعنويا ونفسيا.
وقد دشنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هذا النوع من العمليات بشكل نظامي للمرة الأولى رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف يوم 25 فبراير/شباط 1994 والتي نفذها عضو حركة كاخ المتطرفة، المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين، الذي أطلق النار على المصلين الفلسطينيين أثناء صلاة الفجر داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل جنوبي الضفة الغربية، مما أسفر عن 29 شهيدا وأكثر من 125 جريحا.
كرد فعل على هذه المجزرة، قامت حركة حماس بأولى عملياتها “الفدائية”، أو “الاستشهادية”، في تل أبيب يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1994 من خلال تفجير حافلة في شارع ديزنغوف، مما أسفر عن مقتل أكثر من 20 شخصا وإصابة 104 آخرين.
وقد نفذ العملية الشهيد صالح عبد الرحيم الصوي، الذي سبق أن قُتل شقيقه في غارة إسرائيلية. وخلال عام واحد بعدها، نُفِذَت 14 عملية “استشهادية” في إسرائيل، تسببت في مقتل 86 شخصا، هدفت حماس من خلالها إلى إظهار نوع من الرد المؤلم على المجازر الإسرائيلية، وتسجيل تمسكها بالعمل المسلح في مواجهة “اتفاقيات السلام” التي رأت الحركة أنها تتجاهل مطالب الفلسطينيين وتقوض مقاومتهم.
بحلول نهاية تسعينيات القرن الماضي، وسّعت الحركة نطاق عملها “الفدائي” احتجاجًا على اتفاق أوسلو المُوقع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وقتها، أصبحت العمليات الفدائية السلاح الرئيسي لكل الفصائل الفلسطينية الرئيسية والفاعلة على الساحة، سواء كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أو كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكذلك سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
هذه العمليات حظيت بدعم كبير من عموم الفلسطينيين الذين شعروا بالحرمان من حقوقهم، والإحباط من الاحتلال الإسرائيلي واتساعه، بما أعطى من مشروعية شعبية لهذه العمليات، وهو ما أثبتته الاستطلاعات المختلفة ومنها استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث الدراسية والمسحية الذي أكد أن 69% من الفلسطينيين كانوا يؤيدون هذه الهجمات في عام 2006.
ولّدت هذه المشروعية الشعبية تنافسا بين الحركات على تنفيذ العمليات “الفدائية/الاستشهادية” التي تصاعدت مطلع الألفية تزامنا مع زيادة الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، واحتلال ومصادرة الأراضي الفلسطينية، والقتل والتهجير وفشل عملية السلام، وأخيرا مع تدنيس رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون ومرافقيه للمسجد الأقصى، الأمر الذي أطلق شرارة الانتفاضة الثانية.
نتيجة لذلك، خلال الفترة بين عامي 2000 و2005، ارتفعت وتيرة العمليات “الفدائية/الاستشهادية” من كافة الفصائل، ليبلغ عددها 135 عملية، كان نصيب حركة حماس وحدها منها 54 عملية بنسبة 40% تقريبا.
خلفت هذه العمليات مئات القتلى والمصابين الإسرائيليين، فضلا عن الأضرار المادية والنفسية، إلا أنه مع خفوت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتحديدا بعد عام 2006، توقفت تقريبا الفصائل عن استخدام هذه العمليات لاعتبارات سياسية.
لكن مع تبدل المشهد السياسي والأمني بعد طوفان الأقصى، عادت العمليات “الفدائية/الاستشهادية” خيارا على الطاولة مجددا، مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة طيلة عام كامل تقريبا، والضغط المتزايد في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
بدأ الأمر في 18 أغسطس/آب الماضي بعملية تفجير شاحنة في تل أبيب بعبوة ناسفة تبنتها حركة حماس وكتائب شهداء الأقصى في بيان مشترك، ومثلت إيذانا بعودة هذا النوع من العمليات.
تبع ذلك مقطع مصور بثته كتائب القسام في وقت سابق من شهرسبتمبر/أيلول الفائت، ظهر خلاله منفذ عملية تل أبيب، الشهيد جعفر منى، في طريقه إلى تنفيذ العملية، وتضمّن مشاهد من عمليات “استشهادية” سابقة نفذتها المقاومة الفلسطينية في العمق الإسرائيلي، مثل عملية القدس عام 2001، وعملية تل أبيب عام 1994، وعمليتي صفد وعمانوئيل الثانية اللتين وقعتا عام 2002، مع صور منفذي هذه العمليات.
هذه التطورات تطرح تساؤلا عما إذا كانت المقاومة قررت إعادة العمليات “الاستشهادية” تكتيكا رئيسيا إلى ساحة المواجهة خلال الفترة القادمة.
ومع التطورات الحالية على مختلف الجبهات، لن يكون ذلك أمرا مستبعدا تماما، إذ يتمتع “الاستشهاديون” بمرونة في الحركة وقدرة على التخفي لا يحظى بها المقاومون النظاميون، كما يُعد تصنيع ونقل المتفجرات اللازمة للعمليات الاستشهادية أسهل بكثير من الأسلحة التقليدية، ويعتمد بشكل كبير على مواد “ذات استخدام مزدوج”.
والأهم أن “الاستشهاديين” يصعب تتبعهم أو حتى معرفتهم، قبل الوقت الذي يُقرون فيه شن عملياتهم (غالبا لا يمتلك معظمهم سجلات أمنية لدى دولة الاحتلال)، وهو ما يوفر ميزة المفاجأة والقدرة على اختيار الأهداف التي تُسبب ضررا أوسع.
الأهم من ذلك ربما، أن الجرائم الإسرائيلية والتواطؤ الدولي والصمت الإقليمي على مدار أكثر من عام كامل منذ اندلاع الحرب على غزة، أججت براكين الغضب في قلوب الفلسطينيين، وخلقت طوابير من “الاستشهاديين” المُحتملين، حتى من غير المنتمين إلى فصائل المقاومة، وهذا ما دفع شخصيات أمنية إسرائيلية للتحذير من مغبة التصعيد في مناطق الضفة.
ومع السهولة النسبية لتنفيذها (رغم حجم التضحية الهائل الذي تتطلبه)، فإنها تضرب أهدافا ربما تكون أكثر تأثيرا من تلك التي تضربها الصواريخ والمُسيرات، وتهز ركيزتين أساسيتين لدولة الاحتلال، هما القدرة على توفير الأمن لمواطنيها، والقدرة على الحفاظ على استقرار اقتصادها.
أبعد من ذلك، يمكننا أن نزعم -ولن نكون مخطئين تماما- أن عودة العمليات “الفدائية” والسيارات “التفجيرية” من شأنها أن تلقي بظلالها على الحرب الطويلة الدائرة في قطاع غزة في نهاية المطاف، مع استهداف العمق الإسرائيلي وخاصة تل أبيب، لأن ذلك يعني تقويض المدينة الأكثر أمانا للسكان الإسرائيليين، بمن فيهم الفارون من غلاف غزة والمناطق الشمالية المعرضة لصواريخ حزب الله اللبناني.
وإذا ما أغرقت الفصائل الفلسطينية تل أبيب بالعمليات الفدائية، فإنها ستخلق ضغوطا سياسة أكبر على الحكومة الإسرائيلية والجيش المشتت بالفعل على جبهات الشمال والجنوب والضفة الغربية.
الأخطر من ذلك، أن يتبنى تلك العمليات أشخاص خارج جغرافية فلسطين، وخاصة دول الطوق كما تطلق عليها إسرائيل، وبالتحديد في مصر والأردن، حيث نفذ العديد من الأفراد عمليات فدائية بخلفيات غير مؤدلجة، مما يفتح المجال أمام ارتفاع عددها في المستقبل، واتساع تأثيرها، خاصة مع الحفاوة الشعبية التي يُستقبل بها الفدائي/الاستشهادي وأهله عند الشعوب، وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
كيف تعمل العمليات الفدائية؟
يؤكد هذا الاستعراض التاريخي والسياسي المكانة التي باتت تحتلها “العمليات الفدائية/الاستشهادية” كإستراتيجية أثبتت نجاعتها العسكرية، وأنها ليست مجرد شكل من أشكال التعبير عن اليأس، أو تكتيكا من تكتيكات “الإرهاب” كما تصمها الماكينات الإعلامية الغربية عادة.
لقد نجحت هذه العمليات في إحداث “اختلالات تكتيكية” في صفوف الجيوش الكبيرة، بل وفي تقويض إستراتيجيتها العسكرية أحيانا، وأعجزتها عن مجابهتها في غير ما مناسبة، كما أحدثت اختراقات سياسية بدت مستبعدة ظاهريا لصالح مجموعات طالما عانت من التهميش أو القمع والاضطهاد.
ويُعد العنصر الرئيسي في نجاعة هذه العمليات هو فقدان القدرة على التنبؤ بها، وهو ما يستنزف الكثير من الموارد في مطاردة احتمالات غير متناهية، ويُنهك القوات وسْط الكثير من الإجراءات الاحترازية التي تبطئ حركات الجيوش الكبيرة.
كما يمكن للأعمال “الفدائية” أن تعطل العمليات اللوجستية الأكبر حجمًا، من خلال استهداف البنية الأساسية الرئيسية أو خطوط الإمداد أو مراكز القيادة، مما يشل سلسلة العمليات، ويجبر القادة العسكريين على تحويل الموارد وتوجيهها ضد هذه التهديدات، بدلاً من متابعة أهدافهم.
إلى جانب ذلك، تضع العمليات “الفدائية” ضغوطا على الرأي العام وعلى السياسيين وقادة الجيوش، خاصة إذا أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة، وهو ما يخلق بيئة سياسية يمكن فيها للجماعات الصغيرة الحصول على مكتسبات سياسية أوسع مما تمنحه لها قدراتها العسكرية.
لذلك، تُصنف العمليات “الفدائية/ الانتحارية/ الاستشهادية” اليوم ضمن أشكال الحرب غير المتكافئة، حيث تَستَغِل المجموعات الأضعف تكتيكاتها ضد خصوم أقوى.
ويمكن لهذه الإستراتيجية أن تعمل على تسوية ساحة الصراع وتحوّله إلى حرب “استنزاف”، مما يسمح للطرف الأضعف بإلحاق أضرار جسيمة بخصمه دون الحاجة إلى قدرات عسكرية تقليدية.
والأخطر أن العمليات الناجحة تمثل أداة دعائية قوية، تدفع المزيد من أفراد المجتمع للانضمام إلى الجماعات التي تنفذ تلك العمليات، خاصة من قبل المجتمعات التي تشعر بالتهميش أو القمع من قبل القوى الأكبر المدعومة بآلات عسكرية ضخمة وصكوك بيضاء لممارسة الإبادة، بلا حساب.