سلجوق بَيْرَقْدار مهندس المُسيَّرات الطامح لتغيير العالم
بدأتُ لقائي الطويل مع المهندس سلجوق بيرقدار بطلب شخصيٍّ، وهو أن يتجنَّب الحديث في الأمور التقنية المعقَّدة، فأنا شاعرٌ مهتم بالشؤون السياسية والإستراتيجية، ضعيف الفهم للأمور التقنية، وحينما بدأ مدرِّسي المصري في السنة الأولى الإعدادية -الأستاذ مجدي ذكره الله بخير- يتحدث أمامي بلغة رياضية، في مدينة “النعمة” الموريتانية النائية، ويرسم رموزا رياضية على السبورة، لم أفهم شيئا مما قال، فهربتُ من المدرسة الإعدادية بعد شهرين فقط من الدراسة فيها.. ولولا أن يسر الله لي التوجه إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، بعد سنين من الانقطاع عن الدراسة الرسمية، لربما كان ذلك آخر عهدي بالعلم والتعلُّم. وقد وعدني سلجوق بمراعاة هذه الصفحة المحرجة من تاريخي الشخصي، ووفَّى بوعده على أحسن وجه.
يوصف سلجوق بأنه “أبو المسيَّرات التركية المقاتلة”، ويقارنه كثيرون بالمبتكِر الأميركي الشهير “ستيفْ جوبز”، وبرجل الأعمال الصناعي الأميركي “إيلون ماسك”. فهو شاب متوقِّد الذكاء، صَلبُ العزيمة، واضح الرؤية، قويُّ الانتماء. حمَل همَّ الاستقلال التكنولوجي لبلاده في مجال الصناعات الدفاعية، وتركَّز جهده على صنف حسَّاس من التكنولوجيا العسكرية، هو المسيَّرات العسكرية، وهي إحدى السِّهام الأساسية التي تشير إلى مآلات الحروب في المستقبل. وقد انتزع سلجوق بمنجزاته في هذا المضمار مكانة خاصة في تاريخ الابتكار الصناعي العسكري، وأسهم في وضع تركيا على خريطة الدول الرائدة في هذا المضمار، وجعل منها مصدِّرا للإنتاج العسكري للعديد من دول العالم، بكل ما يترتب على ذلك من حضور دبلوماسي، ومكانة سياسية، ومكاسب اقتصادية.
اقرأ أيضا
list of 2 items
كيف يقتل جنود جيش الاحتلال بدمٍ بارد؟
كيف أخفقت روسيا في دعم بقاء الأسد؟
end of list
وهذه رحلتي الخاصة مع هذا المهندس والمبتكر المتميز. وقد استمدَّ هذا النص مادَّته الأساسية من لقاء طويل وحديث متدفق -دام ساعات عِدَّة- مع سلجوق في مكتبه بشركته “بايكار” في ضواحي إسطنبول، ثم من عدد وافر من المصادر التي تناولت تاريخ الشركة، ومنتجاتها، والمغزى الإستراتيجي لما حققته وما تسعى إلى تحقيقه، بالنسبة لتركيا، وبالنسبة لفنِّ الحرب بشكل عام. وقد شمل الحديث مع سلجوق جوانب شخصية من حياته، مثل جذور عائلته، وبيئته الاجتماعية، ونشأته الأولى، وذكريات طفولته، وما اكتسبه من والده، ومن عائلته بشكل عام، من صفات، مرورا بدراسته في تركيا والولايات المتحدة، ومشاركته مع والده في مشاريعه التصنيعية، ثم حمْله إرثَ والده بعد رحيله، ونقْله ذلك المجهود نقلة نوعية. وقد انتهى الحوار الطويل بنقاش قضايا الإستراتيجية مثل موقع تركيا ودورها الإقليمي والدولي، ومسائل فلسفية مثل العلاقة بين العلم والإيمان والضمير.
بين بحيرتيْ “شكمجة” في مدينة إسطنبول، يفترش مبنى شركة بايكار الذي التقيتُ فيه المهندس سلجوق مساحة فسيحة، وهو مُصمَّم على نمط عصري فريد، ويشمل مكاتب البحث والتطوير، وورشات التصنيع، وقاعاتِ عرضٍ واسعة تضم أصناف المسيَّرات التي تنتجها الشركة. ومن الواضح أن المبنى صُمِّم ليكون بيئة مريحة للعمل، بما يضمه من مسابح، وصالات رياضية، ونواد اجتماعية، ومؤسسات صحية. ويعمل في الشركة آلاف الموظفين، من بينهم 1200 مهندس، ينتمون إلى ثلاثة عشر فرعا من فروع الهندسة، وغالبيتهم من الشباب، حيث معدَّل أعمار العاملين في الشركة لا يتجاوز 28 عاما.
وفي مكتبه الزجاجي الفسيح، رحب بي المهندس سلجوق بيرقدار بحفاوة وود، وكان أثناء حديثنا يراقب طائراته المسيَّرة على شاشات بجانب مكتبه، وهي تحلِّق في رحلات تجريبية -فيما يبدو- وقد ظهرت على الشاشات معلومات عن ارتفاع كل منها وسرعتها. وهو يحدِّق في تلك الشاشات من وقت لآخر، ويقطع الحديث بجملة أو جملتين أحيانا، تعليقا على تلك الرحلات. وفي زاوية المكتب سبورة دوَّن عليها ما يبدو أنه مُعطيات ومعادلات رياضية، بدت لي طلاسمَ فلم أفهم منها شيئا على الإطلاق!
المقصد.. التفاحة الحمراء
لم يكن صدفةً أن اختار المهندس سلجوق بيرقدار اسم “التفاحة الحمراء” Kızıl Elma لدُرَّة الصناعة العسكرية التي تنتجها شركته “بايكار”، وأن يعلن عنها في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وهي أحدث جيل من الطائرات المسيَّرة التي صمَّمها هو وفريقه. وليست “التفاحة الحمراء” بالمسيَّرة العادية، بل هي طائرة مقاتلة ذات قدرة هائلة على المناورة، وبمميزات شبَحِية تجعل من العسير على الرادات اكتشافها، فضلا عن قدرتها على الإقلاع والهبوط الآلي على مدارج قصيرة. ويعتقد سلجوق أن “طائرة التفاحة الحمراء تمثل مستقبل الطيران في العالم. فنحن لم نعد أتباعا لأرباب الصناعات في هذا المضمار، بل أصبحنا شركاء في صناعة التاريخ” كما قال لي.
وللتفاحة الحمراء -كرمز ثقافي- مكانة خاصة عند الأتراك، فهي ترمز إلى الريادة بين الأمم. وقد تردَّد صدى هذا الرمز الثقافي في الأدب التركي والثقافة الجماهرية التركية المعاصرة. ففي مطالع القرن العشرين نشر الشاعر وعالم الاجتماع والسياسي التركي ضياء غوك ألب (1875-1924) ديوان شعر بعنوان “التفاحة الحمراء”، مستلهِما هذا الرمز العتيق في الثقافة الشعبية التركية. وكتب ضياء في إحدى قصائد الديوان: “إن غايتنا في هذا العالم الفاني هي الوصول إلى التفاحة الحمراء”. فاقتطاف التفاحة الحمراء هو التتويج النهائي للمسار التاريخي التركي خلال أكثر من ألف عام، بمحطاتها الفارقة التي تضمَّنت ملاحمَ تاريخية، منها معركة ملاذ كرد 1071م، وفتح القسطنطينية 1453م، ثم معركة جناق قلعة 1915-1916، وحرب التحرير الوطني 1918-1923م، وأخيرا ملحمة 15 يوليو 2016 التي أفشلت الانقلاب العسكري على الديمقراطية التركية. ومن طريف المصادفات أن انطلاق طائرة التفاحة الحمراء يأتي بالتزامن مع الذكرى المائوية لوفاة الشاعر ضياء غوك ألب، صاحب ديوان “التفاحة الحمراء” الذي توفي عام 1924.
وقد أصبح ضياء غوك ألب بدواوينه الشعرية الثلاثة: “التفاحة الحمراء”، و”الحياة الجديدة”، و”الضوء الذهبي”، من أكثر الشعراء الوطنيين شعبية في تركيا. وهو شاعر الرئيس رجب طيب أردوغان المفضَّل، وصاحب الأبيات الشعرية الشهيرة التي سُجن أردوغان بسببها قبل أكثر من عَقدين من الزمان، في مهزلة سياسية وقانونية تدل على ضيق أفق النخبة العلمانية المتحكِّمة آنذاك، وهي قول ضياء: “المآذن رماحنا، والقباب خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا”. وقد أشار الرئيس أردوغان إلى رمز التفاحة الحمراء في خطاباته أكثر من مرة، ومن ذلك قوله مخاطبا الشباب الأتراك عام 2017: “سوف نبني تركيا معكم عام 2023. أما التفاحة الحمراء المستقبلية فهي تركيا عام 2053 حينما نكون قد تركنا أمانة كل شيء بأيديكم”. وهو يشير بعام 2023 إلى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، وبعام 2053 إلى الذكرى المئوية السادسة لفتح إسطنبول.
وقد اختلف المؤرخون والكتَّاب في تفسير الدلالة الرمزية للتفاحة الحمراء لدى الأتراك الأقدمين، فمنهم من جعلها تعبيرا رمزيا عن الطموح لفتح مدينة القسطنطينية، ومنهم من رآها إشارة إلى السقوف الطينية الحمراء السائدة في المدن الأوروبية العتيقة التي استهدفها العثمانيون بالفتح في أوج اتساع إمبراطورتيهم، ومنهم من يعتبر التفاحة الحمراء رمزا للكرة الأرضية، فهي -طبقا لهذا التفسير- تعبير رمزي عن الطموح إلى القيادة والريادة العالمية. والظاهر أن جاذبية هذا الرمز تكمن في غموضه ودلالاته المفتوحة، فهو يرمز إلى كل ما طمح إليه الأتراك من أهداف ظاهرة أو مُضْمَرة خلال مسارهم التاريخي الطويل. وتحت مظلة هذه الدلالات المفتوحة دخلت طائرة “التفاحة الحمراء” العسكرية المسيَّرة، فهي أبلغ تعبير عن هذا الرمز الثقافي في تركيا اليوم.
سألتُ المهندس سلجوق بيرقدار ماذا يعني له رمز التفاحة الحمراء؟ ولماذا استلهم هذا الرمز الثقافي التركي في تسمية دُرَّة منتجاته العسكرية، طائرة “التفاحة الحمراء” المسيَّرة؟ وإذا كانت التفاحة الحمراء ترمز للغاية البعيدة المنال، فهل هو يرى أن تركيا قد حققت هذه الغاية من خلال تصنيعه لطائرات “التفاحة الحمراء” المقاتلة؟ أم أن التفاحة الحمراء غاية لا تُدرك، والمهم هو السعي إليها؟
فذهب إلى أن فكرة مسيَّرة “التفاحة الحمراء” ظلت تختمر في عقله منذ أن بدأ مع والده بحوثا تجريبية لتصنيع مسيَّرة صغيرة لا يزيد حجمها على ستة كيلوغرامات. لكن هذا الحلم لم يتحقق إلا بعد نحو عشرين عاما من التطوير والجهد الدائب الذي لا يعرف الكلل أو الملل. ولأن التفاحة الحمراء غاية مفتوحة، فيجب أن يكون الطموح إليها أفُقًا مفتوحا، والسعي إليها سعيًا دائبًا، بحيث يتحول السعي غاية في ذاته. ولذلك فإن النجاح في تصنيع طائرة “التفاحة الحمراء” مجرد محطة على الطريق، ستليه محطات أخرى ذات صلة بغزو الفضاء وغيره من مشروعات. وقد ذكَّرني حديث المهندس سلجوق بطرف من أشعار جلال الدين الرومي (1207-1273)، دفينِ مدينة قونية التركية التي كانت عاصمة الإمبراطورية السلجوقية، حيث يقول الرومي: “واصِل السير. لا توجد وِجْهة نهائية، فلا تحاول رؤية الغاية من بعيد”.
الجذور وذكريات الطفولة
في شمال شرق تركيا حيث تنتاب التضاريسَ نزعة للعلوّ، فتمتد اليابسة المُطلّة على البحر الأسود لمصافحة السماء، ترجع جذور أسرة المهندس سلجوق بيرقدار. وكان جده لطفي رئيس صيادًا، قويَّ الشكيمة، فضوليًّا، ذا روح مغامرة. وكان يأخذ معه أبناءه وأحفاده في رحلات بحرية لصيد السمك. وقد هاجرت الأسرة إلى حيّ “غريبجه” في إسطنبول، الذي يكاد يكون قطعة مستعارة من منطقتهم الأصلية، إذ إن هذا الحي من مدينة إسطنبول أشبه ما يكون ببلدة صغيرة من بلدات البحر الأسود. فقد جمع الحي بين الطبيعة الجبلية والساحلية، وتجمَّع فيه عدد من المهاجرين الغرباء من شتّى مناطق الأناضول. وربما يكون ذلك سبب تسمية الحي “غريبجه” التي تعني “الغريب”.
في ذلك الحي ولد سلجوق عام 1979، لأسرة محافظة اجتماعيا، عميقة الحاسَّة الوطنية سياسيا، وفيها صلابة وشجاعة. والمعنى الاشتقاقي لاسم العائلة له دلالة خاصة، إذ تعني كلمة “بيرق” باللغة التركية العَلَم، وطبقا لكتاب “المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية” لمؤلفه الدكتور سهيل صابان، فإن لفظ بيرق “كان يُطلق في الأصل عند أتراك آسيا الوسطى على قِطع الأقمشة المختلفة الألوان والأبعاد، الممنوحة للأبطال الذي أظهروا بسالة في الحرب”، أما لفظ “بيرقدار” (ويُنطق تاء بالتركية) فمعناه “حامل العلَم”.
ويبدو أن الطبيعة تركت بصمتها على شخصية سلجوق وعائلته، فمن البحر استلهم في طفولته ثقافةَ الكفاح، وروح المغامرة والمخاطرة. كما أنه متعلق تعلُّقا عميقا بمنطقة طرابزون، وهي منطقة معروفة بثقافة العمل والجِدِّ، وبتقاليد أهلها العريقة، المنقوعة في القيَم الاجتماعية الإسلامية.
سألت سلجوق لماذا لم يفقد الأمل بعد أن تحطَّمت طائراته المسيَّرة عدة مرات في تجاربه الأولى، بل أصرَّ على تكرار المحاولات وتحسينها، حتى وصل إلى ما يطمح إليه من إتقان. فمن أين له بهذه العزيمة وهذا الإصرار؟ فأشار إلى صلابة والده الذي كان قدوته في هذا المضمار. ثم إلى ثقافة ساحل البحر الأسود ذي التضاريس الجبلية الوعرة. فالناس في تلك المنطقة اعتادوا صعود الجبال لزراعة الشاي وقطفه، وخوض غمار البحر لاصطياد السمك. فثقافة أهل طرابزون “ثقافة كفاحية” كما يقول سلجوق، لأنها تستلزم مصارعة الأمواج العاتية، وتسلُّق القِمم العالية، وهي الثقافة التي لقَّنها إياه أبواه منذ الطفولة. وهو مقتنع اقتناعا عميقا بأن “الإيمان يحرِّك الجبال”، وبأن “الضغط يعلِّم الصبر، والصبر يقود إلى النجاح، والتحديات تجعل الإنسان أقوى”. كما يؤمن بأنك “إذا أردت نتائج استثنائية فعليك أن تعمل بطريقة استثنائية”. وكأنما يؤمن سلجوق بحكمة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799-1837) القائلة: “إن الضرب يكسِّر الزجاج، ولكنه يبلِّط الحديد”.
وإذا كان لكل إنسان ذكرياتٌ خاصة يستبقيها من عهد الطفولة، وهي تشكِّل وعيه وطموحه المستقبلي، فإن سلجوق لا يزال يحتفظ بذكريات باقية من طفولته، تركتْ أثرها في قلبه وعقله. وقد سألتُه عن ذكريات الطفولة ذات الأثر الباقي في حياته، فذكر منها أن والده المهندس أوزدمير كان شَغوفا بالطيران، وكان يأخذه معه أحيانا -وهو لا يزال في الثامنة من عمره- إلى دروسه للتدريب على الطيران. وفي إحدى تلك الزيارات ركب سلجوق الطائرة مع المدرِّب، فانطبع في ذاكرته الشَّغف بالطيران منذ ذلك اليوم. ومن ذكرياته الباقية أيضا أن والده جلب له مرة مجسَّم طائرة، بعد رحلة له إلى فرنسا.
تخرجتْ والدة سلجوق “جَنان” من كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول، وعمِلت مبرمجة كمبيوتر في “بنك التنمية الصناعية التركي” فترة من الوقت، وكانت صارمة في أمر دراسة أبنائها الثلاثة: خَلوق وسلجوق وأحمد. فكانت تعينهم في دراستهم الابتدائية والثانوية، وتضغط عليهم ليجتهدوا ويتفوقوا في الدراسة. أما والد سلجوق، أوزدمير بيرقدار (1949-2021)، فكان مهندسا موهوبا، شَغُوفا بعلم الهندسة، و”فضوليا للغاية” كما حكى لي ابنه سلجوق. وكان ذا شخصية صلبة، عظيمة الثقة في ذاتها، لا تعرف الاستسلام للصعاب، وتأنف من ضَعف الثقة في الذات الذي ظهرت أعراضه على بعض النخب التركية المتغرِّبة. كما كان أوزدمير شَغُوفا بعمله، لا يعرف الملل أو الكلل. وقد تربَّى سلجوق قريبا من والده، واتخذه قدوة في هذه الأمور. كما جمع بين الوالد والولد شغَفٌ عميق بصناعة الطيران، والتحليق إلى الأعالي، بمعناه الحقيقي والمجازي.
وقد تخرَّج أوزدمير من كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول التقنية عام 1972 بشهادة الماجستير، متخصصا في المحركات ذات الاحتراق الداخلي، ثم دشَّن مشاريع صناعية طموحة، في وقت لم تكن في تركيا بِنية تحتيَّة صناعية راسخة. ففي منتصف الثمانينيات أسَّس شركة “بايكار ماكينا” الصناعية للإسهام في صناعة السيارات وغيرها من الصناعات الثقيلة. ثم اتجه بعد ذلك وجهةَ الطيران، فكان أشهر مشاريعه وأقربها إلى قصتنا، شركة بايكار، التي تولى ابنه سلجوق إدارة أمورها التقنية، وأنتجت في حياة أوزدمير جيلين من الطائرات المسيَّرة. وتلك هي البذور التي سقاها سلجوق ورعاها بعد رحيل والده، حتى استوتْ على سُوقها، وأصبحت من درر الصناعة العسكرية في عَالم اليوم.
وسرعان ما تلاقى شغف الأسرة بالطيران، وانتماؤها الوطني الصلب، مع حاجات الجيش التركي إلى فتح ثغرات إستراتيجية في هذا المضمار، تُعينه في التغلب على العوائق والتحديات. وفيما بين العامين 2005-2009 دخل أوزدمير في شراكة مع الجيش التركي لتصنيع مسيَّرات “بيرقدار الصغيرة” التي سدَّت ثغرة مهمة في عمليات الجيش الاستطلاعية. وبدأ الجيش التركي استخدام هذه المسيَّرات منذ عام 2012. ثم تطورت العلاقة بين الشركة والمؤسسة العسكرية التركية إلى آفاق أرحب. وكانت مسيَّرات بيرقدار الصغيرة الاستكشافية فتحا مبينا بالنسبة للجيش التركي، لأنها مكَّنته من استكشاف المناطق الجبلية الوعرة، دون مخاطرة بأرواح جنوده.
كان أوزدمير شجاعا جَسورا، لا يتردد في المخاطرة بالسفر إلى المناطق الجبلية الوعرة على الحدود، من أجل اختبار المسيَّرات الاستطلاعية التي صنَّعتها شركته للجيش التركي، ومراقبة أدائها في الميدان. وكان سلجوق وخلوق يصحبان والدهما في تلك الرحلات الخطرة. وأحيانا يسافر سلجوق من مدينة بوسطن في الولايات المتحدة -حيث كان يدرُس- إلى تلك المناطق الحدودية النائية من تركيا، لمشاركة والده وأخيه اختبار أداء المسيَّرات، وتطبيق ما كان يتعلمه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) تطبيقا حيًّا في الواقع الميداني. وبهذه الشجاعة والالتحام بجنود الجيش في الميدان اقتنعت قيادة الجيش التركي بأن أوزدمير وأبناءه نمط خاص من الشركاء الملتزمين، الذين يمكن الاعتماد عليهم حقا، وليسوا مجرد رجال صناعة عاديين يبحثون عن الربح وجمع المال.
رسمت كلمات المهندس أوزدمير بيرقدار مسار ابنه من بعده، حين قال: “سيستمر عملنا دون كلل، وبكل ذرة من كياننا، إلى أن يحقق بلدنا هدفه، بالتحول إلى دولة رائدة في صناعة الطيران المسيَّر”. وتلك رسالة شاركه فيها ابنه سلجوق في حياته، وتابعها بعد وفاته. ففي عام 2021 توفي المهندس أوزدمير، تاركا وراءه ذكرى طيبة، ومشروعا صناعيا إستراتيجيا سيغير تاريخ تركيا بكل تأكيد، وربما سيغير تاريخ الحروب أيضا. وقد حملت عدد من المؤسسات العلمية والصناعية اسم أوزدمير، اعترافا بفضله، وتخليدا لذكراه.
طالبٌ ذو همٍّ ورسالة
ترك أوزدمير لأبنائه بيئة عائلية متدينة ومتماسكة، يترابط أفرادها برباط وثيق، ويجمع بينها التوجه إلى التخصص العلمي، والابتكار الصناعي، مع نجاح باهر في عالم المال والأعمال. ولا تزال ملامح هذه البيئة العائلية واضحة في أسرة سلجوق، فوالدته “جنان” لا تزال تعمل مع أبنائها في الشركة حتى اليوم. وحينما توسَّع المحيط العائلي لسلجوق عام 2016، بزواجه من سُميَّة أردوغان، ابنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم تتغير البيئة العائلية كثيرا. ذلك أن أسرة أردوغان ترجع جذورها إلى منطقة البحر الأسود أيضا، فهي في الأصل من مدينة “ريزه” القريبة من مدينة طرابزون.
ويجمع بين الأسرتين -إضافة إلى الجذور الجغرافية- الاعتزاز بالهوية الإسلامية، والحاسَّة الوطنية العميقة، والقرب من مدرسة نجم الدين أربكان، والحرص على النهوض بتركيا، وانتزاع مكانة لائقة بها على الساحة الدولية. كما يجمع بين سلجوق وسمية أنهما خريجان من جامعات أميركية، فقد تخرجت سمية من جامعة إنديانا الأميركية متخصصة في علم الاجتماع والسياسة، ولها مساهمات في نشاط المنظمات الإسلامية الأميركية. وكانت دراستها في الولايات المتحدة اضطرارا، لا اختيارا، بسبب منع الحجاب الإسلامي في الجامعات التركية، رغم أن والدها كان رئيس الوزراء آنذاك!
بدأ سلجوق دراسته الابتدائية في مدرسة تركية، ثم أكمل الإعدادية والثانوية في مدرسة “روبرت” الأميركية في إسطنبول، وهي مدرسة نخبوية خاصة، تخرَّج منها عام 1997، وكان متفوقا دائما في مادتي الرياضيات والفيزياء. ثم كان تعامله مع الكمبيوتر في البيت، والبدء في البرمجة وهو لا يزال في السابعة من عمره، من الأمور التي حبَّبت إليه التخصص في الهندسة الإلكترونية. وقد ظهرت لديه مواهب تطبيقية في هذا المضمار في عمر مبكر، منها أنه صنع -وهو لا يزال في سن المراهقة- آلة تسكب عليه الماء حينما يرنُّ المنبِّه، من أجل إيقاظه لصلاة الفجر.
وفي جامعة إسطنبول التقنية درس سلجوق الهندسة الإلكترونية والاتصالات، وكان يعمل -بالتوازي مع ذلك- في شركة والده، ويحاول أن يطبق ما يدرسه في الجامعة، فاعتاد على ترجمة المعارف النظرية إلى منجزات عملية. ثم رحل لإكمال الدراسات العليا بجامعتين عريقتين في الولايات المتحدة هما: جامعة بنسلفانيا، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. فحصل على شهادة الماجستير في كل من الجامعتين، الأولى عام 2004، والثانية عام 2006. وكانت رسالته بجامعة بنسلفانيا عن التنسيق بين أسراب الطائرات المسيَّرة، أما رسالته بمعهد ماساشوستس فكانت بعنوان: “مناورات الإنزال التحكُّمي للطائرات المسيَّرة”. وهي تقدِّم طريقة مبتكرة لإنزال المسيَّرات في ظروف جوية صعبة، وأماكن غير اعتيادية، مثل الحيطان وسقوف المنازل، وتسييرها بطريقة عمودية إقلاعا وهبوطا.
وقد نوقشت الرسالة في شهر فبراير/شباط 2006، وبدأ سلجوق صفحة إهداء الرسالة بشكر الله عز وجل على نعمه التي لا تُحصى، ثم شكر أستاذه المشرف أريك فيرون، وعددا من أصدقائه بالجامعة، وشكر “جمعية الطلاب المسلمين” في معهد ماساشوستس MAS-MIT لما تركت في نفسه من “أثر عميق”، وختم الإهداء بشكر والده ووالدته على “محبتهما ودعمهما اللذين لا يمكن تعويضهما”.
وكان طيلة مدة دراسته في حوار مفتوح مع والده أوزدمير فيما يمكن تفعيله في شركة العائلة من مشاريع تكنولوجية، بناء على دراساته تلك. وتأسيسا على تلك الحوارات شكَّل مع والده عام 2003 فريقا صغيرا، لتصميم مشروع طائرة مسيَّرة صغيرة. فكانت تلك هي البذرة الأولى لما سيتحقق من إنجازات فيما بعد.
تفوَّق سلجوق في دراساته العليا في جامعة بنسلفانيا ومعهد ماساشوستس، وقرَّبه نبوغُه من أساتذة أميركيين متميزين في مجال تكنولوجيا الطيران المسيَّر، وهو مجال علمي وصناعي كان لا يزال طريًّا يومها. فشاركه الأستاذة الأميركيون في مشاريع بحثية مشتركة. ومن هؤلاء جورج باباس من جامعة بنسلفانيا، وجورجيوس فينوكوس من جامعة أريزونا، وأريك فيرون من معهد جورجيا للتكنولوجيا، وهو المشرف على رسالة سلجوق بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا.
وتوَّجَ سلجوق مسيرته الجامعية بنشر أبحاث علمية رصينة، شارك ببعضها في مؤتمرات علمية متخصصة في تكنولوجيا الطيران، وتركزت هذه الأبحاث على تكنولوجيا المسيَّرات، والخوارزميات المتعلقة بها، وطرائق التحكم فيها، والتنسيق بين أسرابها. وقد تعاون معه في بعض تلك الأبحاث متخصصون أتراك، منهم فاتح لوكومجو من جامعة إسطنبول التقنية، وإسماعيل لاز أوغلو من جامعة كوجْ، وتولغا بويوكيازي من الجامعة ذاتها. كما شاركه أخوه المهندس خَلوق بيرقدار بعضَ أبحاثه.
ويبدو خَلوق أقرب أفراد العائلة من سلجوق من حيث الخلفية الدراسية والاهتمام المهني، فهما فَرسَا رِهانٍ في ميدان الصناعة العسكرية، وكلاهما يكمِّل الآخر. فخَلوق مهندس ورجل أعمال موهوب، وهو الرئيس التنفيذي لشركة بايكار، ومتولِّي أمورها الإدارية والمالية، بينما يتولى سلجوق إدارتها التقنية. تخرج خَلوق من جامعة الشرق الأوسط التقنية في إسطنبول، متخصصا في الهندسة الصناعية، ثم أكمل دراسته العليا في جامعة كولومبيا الأميركية في مجال الهندسة المالية. وقد حصل على ميداليات من عدة دول، خصوصا تلك التي استوردت مسيَّرات بيرقدار.
ولم يكن الأساتذة الأميركيون بالمؤسسات التي درس فيها سلجوق على نفس القدر من النصح والتجرد. فقد أخذت الحميَّةُ أحدَ أساتذة معهد ماساشوستس بعد سنين طويلة من تخرُّج سلجوق، وهو أستاذ الفيزياء السويدي الأميركي ماكس تيغمارك، حينما ظهر دور مسيَّرات بيرقدار في استرجاع أذربيجان لإقليم قره باغ من أرمينيا، فقال لصحيفة ألمانية إنهم خجِلون من تدريس سلجوق، رغم أنه لم يكن من أساتذة سلجوق بالمعهد أصلا! وهو ما رد عليه سلجوق في تغريدة له باللغة التركية ردا حاسما، إذ كتب: “رجل يدَّعي أنه أكاديمي، ويعمل بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وأنا أسمع اسمه لأول مرة، قال في مقابلة له أثناء عملية قره باغ: نحن خجِلون من تدريس سلجوق بيرقدار. ما يجب أن تخجلوا منه هو الإبادة والمذابح التي اقترفتموها. لقد استرجعنا أرضنا، ونحن فخورون بذلك”. وبالجملة يمكن القول إن سلجوق لم يكن خلال دراساته بالولايات المتحدة طالبا عاديا، غاية طموحه أن يحصل على شهادة جامعية يتباهى بها، أو وظيفة يعيش بها. بل كان طالبا ذا همٍّ ورسالة أجلَّ وأكبرَ من ذلك بكثير.
عبرة الماضي للمستقبل
لفت نظري وجود كتب كثيرة منثورة على طاولات أمام مكتب سلجوق، واستغربتُ أن بعض تلك الكتب لا علاقة لها بالتكنولوجيا أو الطيران، بل هي تتناول مراحل من تاريخ الدولة العثمانية والحضارة الإسلامية، وسِيَر بعض العظماء في التاريخ الإسلامي. لكن ذلك الاستغراب سرعان ما تلاشى بعد حديثي الطويل مع سلجوق. فقد تكشَّف لي أن الرجل يملك ذاكرة تاريخية طريَّة، تحتوي على اعتزاز عميق بمنجزات الحضارة الإسلامية وثمارها العلمية، وبرواد صناعة الطيران في تركيا المعاصرة ومنجزاتهم.
سألتُ سلجوق كيف وجد في التراث العلمي للحضارة الإسلامية ملهِما له؟ ولماذا يدعو إلى استلهام ذلك التراث العلمي واتخاذه زادا للمستقبل؟ وما هي القدوات العِلمية والعَمَلية التي يعتز بها، ويراها ملهما له في حياته ومنجزاته؟ فأجاب بأن أعظم ملهم له -وللإنسانية جمعاء- هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه الراشدون: أبو بكر وعمر وعليٌّ وعثمان رضي الله عنهم، “فسِيَر حياتهم ومبادئهم الأخلاقية نورٌ يشعُّ علينا كل حين”.
كما ذكر في سياق القدوة العِلمية بديعَ الزمان الجَزَري (1136-1206م) لأنه “أول مهندس صنع آلات يمكن اعتبارها روبوتات بمعنًى من المعاني”، مضيفا: “أنا أنتمي إلى مدرسة الجزري الفكرية، لأني متخصص في الروبوتات”. وقد سمَّى سلجوق السيارة الطائرة التي يطوِّرها منذ سنين باسم “جزَري”، وهي مشروع رائد في مجالات السيارات الطائرة، يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتمتاز هذه السيارة بخفتها ومرونتها ومتانتها، وهي تعمل ببطارية كهربائية قابلة للشحن، وتُقلِع أفقيًّا، فضلا عن كونها مصمَّمة طبقا لشروط “التكنولوجيا الخضراء” التي لا تلوِّث البيئة.
وتهدف شركة بايكار من وراء تصنيع سيارة “جزري” الطائرة إلى حل معضلات أساسية في المدن الكبرى، مثل التقليل من الازدحام. كما تهدف إلى تسريع المهمات التي لا تقبل التأخير، مثل تسليم الدواء وغيره من الأمور المستعجلة إلى طالبيها في الوقت المناسب، والإسهام النوعي في عمليات البحث والإغاثة في المناطق الوعِرة التي يصعب وصول السيارات العادية إليها. وتصلح سيارة “جزَري” الطائرة للاستخدام العسكري، أداةً لإمداد الجنود أو إغاثتهم في المنطق النائية.
أما الجزري الذي يعتز سلجوق بيرقدار بالانتماء لمدرسته فهو مهندس ومخترع مسلم عاش في بلاط أسرة الأراتقة التركمانية التي حكمت مدينة القدس نيابة عن السلاجقة، ثم انتقلت إلى منطقة الجزيرة الفراتية، وبنت دولة هناك، تركزت سلطتها في مدينة ماردينْ بجنوبيِّ شرق تركيا حاليا، حيث حكمت تلك المنطقة لأكثر من ثلاثة قرون (1108-1410م). واشتهر حكم الأراتقة بوفرة الأوقاف، كالمدارس والمساجد والزوايا، ولهم تاريخ مجيد في مقاومة الحروب الصليبية والاجتياح المغولي للعالم الإسلامي. وقد زار الرحالة المغربي محمد ابن بطوطة (1304-1375م) مدينة ماردين في ختام حكم الأراتقة، ووصفها في كتاب رحلته الشهير بأنها “من أحسن مدن الإسلام، وأبدعها، وأتقنها، وأحسنها أسواقًا”.
وفي هذه البيئة نشأ بديع الزمان الجزري، وهو من عباقرة المهندسين في التاريخ الإسلامي والإنساني، ومن أوائل من صمموا الآلات ذاتية الحركة باستخدام انسياب الماء. ومنها الساعات، وآلات الريّ وتصريف الماء. وتعتبر أفكاره أساسا للعديد من أوجه النهضة الصناعية المعاصرة. وبفضل عبقريته الهندسية، ومخترعاته الكثيرة، ارتقى الجزري إلى منصب كبير المهندسين في بلاط الأراتقة. وقد ضمَّن العديدَ من مخترعاته الصناعية في كتابه: “الجامع بين العلم والعمل النافع” وشرحَها شرحا وافيا برسوم توضيحية بديعة. وقد استلهم كثير من الغربيين أفكار الجزري في عصر النهضة، حيث درسه المهندس والنحات الإيطالي ذو الشهرة العالمية ليوناردو دافنشي (1452-1519)، واستفاد منه كثيرا.
وضمن استلهام الماضي المجيد أسس سلجوق شركة متخصصة في تكنولوجيا الفضاء عام 2022، تحمل اسم “فرغاني”، نسبة إلى عالم الفلك التركي أحمد بن كثير الفرغاني الذي يرجع أصله إلى فرغانة (في أوزبكستان اليوم)، وقد عاش في بغداد خلال القرن الثالث الهجري، وكان من ألمع علماء الفلك في بلاط الخلفية العباسي المتوكل (820-861م)، وألَّف كتبا علمية بالعربية منها كتاب: “الحركات السماوية وجوامع علم النجوم “. كما يُعتَقد أنه صمم مقياسا لمعرفة منسوب مياه النيل.
كما اسلتهم سلجوق العبرة من رواد التصنيع العسكري الأتراك المعاصرين. ومن هؤلاء رجل الأعمال والسياسي نوري ديميراغ (1886-1957)، والطيار العسكري وجيهي هوركوس (1896-1969). فقد أسَّس نوري شركة رائدة لصناعة الطيران عام 1936، ونجح في صناعة أول طائرة تركية. لكن المشروع توقف بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن التزامات تركيا لحلفائها الغربيين. أما وجيهي فقد صنَّع طائرات في ثلاثينيات القرن العشرين، وبذل جهودا مضنية لتأسيس صناعة طيران وطنية في تركيا، لكن جهوده تلاشت بسبب التثبيط الداخلي والخارجي.
فليس غريبا أن تُشيد شركة بايكار في رؤيتها المنشورة على موقعها الإلكتروني بتراث كل من نوري ديميراغ ووجيهي هوركوس، وتعتبر مسيرتها استئنافا لجهودهما الرائدة، يسعى للبناء على تلك الجهود الموءودة، لتحقيق نهضة راسخة ودائمة في مجال الطيران العسكري. وقد بنى سلجوق بيرقدار منجزاته على استخلاص العبرة من تجربة أولئك الرواد، والتأكد من عدم وأد جهوده، كما وُئِدتْ جهودهم من قبل. ولذلك يتردد في أحاديثه الإصرار على “إزالة الحواجز … حتى لا نفشل كما فعلنا في الماضي”، وضرورة “التأكد من أن التاريخ لن يعيد نفسه”. ذلك أن تركيا لم تصل إلى هذه المستوى من الابتكار في عالم المسيَّرات العسكرية إلا بعد تجارب متعثرة ومخيِّبة للآمال.
حلفاء غير أوفياء
لم تبالغ مجلة (فورين أفيرز) الأميركية إذ كتبت مرة: “إن برنامج المسيَّرات التركية وُلد من رحِم الإحباط من المورِّدين الأجانب”. فقد بدأ تطوير سلجوق ووالده للمسيَّرات العسكرية في بيئة إستراتيجية حساسة بالنسبة لتركيا: حيث تراجعت الثقة بينها وبين حلفائها الأميركيين الذين اعتادت شراء السلاح منهم، كما أن المحيط الإقليمي طوَّق تركيا بأزمات سياسية وحرائق عسكرية عديدة، مما فرض على تركيا إعادة النظر في عقيدتها الإستراتيجية بشكل شامل.
وقد بدأ تراجع الثقة في الحلفاء الغربيين تدريجيا منذ أمد بعيد، وكانت الحرب الأهلية في قبرص عام 1974 هي البداية، حينما فرضت الولايات المتحدة حظرا على بيع السلاح لتركيا على مدى ثلاثة أعوام، لأنها تدخلت عسكريا لحماية القبارصة الأتراك من الإبادة على أيدي القبارصة اليونانيين، أو الضمِّ القسري إلى دولة اليونان. فكانت تلك العقوبات من أقرب حلفاء تركيا إليها درسا مريرا، فَهِمَ الساسة الأتراك منه أن الاستقلال في مجال التصنيع العسكري هو المدخل إلى استقلال القرار السياسي والإستراتيجي.
وحين أصبحت الولايات المتحدة رائدة صناعة المسيَّرات العسكرية في تسعينيات القرن العشرين حاولت تركيا استيراد المسيَّرات منها، لكن الأميركيين رفضوا بيعها مسيَّرات متقدمة، تلبِّي حاجاتها الأمنية، وربما تعمَّدوا حشر تركيا في الزاوية، ودفعِها إلى الاعتماد على إسرائيل في هذا الباب، إيثارا لإسرائيل على أنفسهم وعلى الغير، كما هو عادتهم. فلجأت تركيا إلى إسرائيل ابتداء من العام 2005، وأبرمت معها صفقة شراء مسيَّرات عسكرية إسرائيلية من نوع “هيرون”، في ظروف يحيط بها الكثير من الريبة وعدم الثقة.
فلم يكن الإسرائيليون في يوم من الأيام ناصحين لتركيا فيما يبيعونها من تكنولوجيا عسكرية بأثمان باهظة جدا. وقد عانت تركيا في تعاملها معهم في موضوع المسيَّرات العسكرية، حيث كانوا يتأخرون في تسليم المسيَّرات التي تشتريها منهم، حتى هددتهم بفرض عقوبات مالية عليهم بسبب الإخلال بشروط العقد. ثم تكشَّف للأتراك أن الاعتماد على الإسرائيليين خطر على الأمن الإستراتيجي التركي.
وقد صرَّح وزير الدفاع التركي الأسبق نور الدين جانيكلي بأن عشرًا من مسيَّرات هيرون التي باعتها إسرائيل لتركيا عام 2010 كانت تعاني من خلل فني. وقال الوزير: “لقد فعل الإسرائيليون ذلك عن قصد، لكيلا نستطيع استخدام تلك المسيَّرات. فقد خرَّب المهندسون الإسرائيليون نظام التجسُّس في المسيَّرات، ولذلك اكتشفنا أننا لا نقصف سوى الصخور، وأننا نخطئ أغلب أهدافنا.” وزاد من سوء تلك الصفقة أن إسرائيل رفضت تزويد تركيا بقِطَع الغيار اللازمة لمسيَّرات هيرون. وعلَّقت تركيا الصفقة عامي 2008-2009 ردا على حرب “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية على غزة آنذاك. ثم ساءت العلاقة العسكرية بين الطرفين بعد الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” الذي قتل فيه الجيش الإسرائيلي عشرة من المواطنين الأتراك، كانوا في رحلة تضامن بَحْرية مع غزة.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 دفعت الحميَّة للأرمن الحكومةَ الكنَدية إلى منع تصدير الكاميرات التي كانت تستوردها شركة بايكار من كندا، وتستخدمها في صناعة مسيَّراتها، بعد إسهام تلك المسيَّرات في هزيمة أرمينيا، وإخراجها من الأراضي الأذربيجانية المحتلة. علما بأن العام التالي شهد حملة شعبية واسعة في كندا لشراء مسيَّرات TB2 ذاتها، من شركة بايكار ذاتها، لصالح الأوكرانيين، بعدما تبيَّنت فاعلية هذه المسيَّرات ضد الجيش الروسي في أوكرانيا.. في مثال صارخ على الازدواجية والتطفيف الغربي في هذا المضمار.
ويمكن القول إن امتناع الولايات المتحدة من بيع مسيَّرات عسكرية لتركيا، وغدر إسرائيل بالأتراك في صفقة المسيَّرات التي باعتهم إياها، وسعْي دول غربية أخرى إلى التضييق على تركيا في هذا المجال، إضافة إلى ذاكرة حظر السلاح في السبعينيات.. كلها كانت نِعمًا عظيمة على تركيا، إذ دفعت هذه المواقف تركيا إلى التصميم على إنتاج مسيَّراتها الخاصة، والتخلي عن الاعتماد على الآخرين في استيراد هذه التكنولوجيا العسكرية، بعدما تبيَّن أن الحلفاء الغربيين ليسوا أوفياء، وأن بعض من كانت تركيا تستورد منهم -مثل الإسرائيليين- لا يُؤمَن جانبهم، ولا يمكن الثقة فيهم.
وهنا برزت أسرة بيرقدار على الساحة، وظهر سلجوق، كأحد أبرز المخترعين في تركيا وفي العالم، في مجال المسيَّرات العسكرية. ففي ظروف الشد والجذب مع الإسرائيليين بشأن طائراتهم المسيَّرة التي لم تستفد منها تركيا كثيرا، طورت شركة “بايكار” بقيادة أوزدمير وولديه سلجوق وخَلوق، مسيَّرات تكتيكية صغيرة وفعالة لصالح الجيش التركي بين عامي 2005 و2007، ثم طورت الشركة بعد ذلك مسيَّرات أخرى أكبر حجما، وأكثر فاعلية، مثل مسيَّرة TB2 التي دخلت في خدمة الجيش التركي عام 2014. وهي أولى المسيَّرات التركية تصديرا إلى الخارج، حيث اقتنتها قطر ثم أوكرانيا في البداية، وتكثَّف الطلب عليها منذ ذلك الحين إلى اليوم.
طورت بايكار بعد ذلك جيل TB3 من المسيَّرات المقاتلة. وفي عام 2019 أكمل سلجوق وفريقه مشروع طائرات آكينجي، وهو جيل من المسيَّرات المقاتلة أكثر تطورا من الجيل السابق، لديه قدرة على هجوم جو-جو، وهجوم جو-أرض. وهو مزود بذخائر ذكية موجَّهة بالليزر. ثم جاءت طائرة “التفاحة الحمراء” لتكون درَّة تكنولوجيا المسيَّرات العسكرية التركية.
البيئة السياسية المواتية
لا تتحقق نهضة في مجال التصنيع العسكري دون بيئة سياسية مواتية. ومن أهم شروط هذه البيئة الدعم السياسي الذي يحُوط التصنيع العسكري برعايته، والحكمة السياسية التي تصونه من الوأد على أيدي الأعداء المتربِّصين، والبِنْية التحتية العلمية التي تضمن ازدهار البحث والتطوير.
بدأ تاريخ أسرة بيرقدار السياسي مع نشاط والد سلجوق، أوزدمير، في “حزب الرفاه” ذي الخلفية الإسلامية، الذي أسَّسه رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان (1929-2011) مع ثُلَّة من أصحابه عام 1983. وقد جمع بين الرجلين الالتزام العميق بقيم الإسلام، والإصرار الشديد على إحداث نهضة في الصناعات الثقيلة في تركيا. وقد ترك اهتمام أربكان بالصناعة بَصْمته في أسرة بيرقدار، من حيث الحرص على تحقيق الاستقلال الصناعي لتركيا: “فأربكان كان يدفع بتركيا في اتجاه الصناعات الثقيلة، وكان ذلك أحد أهدافه السياسية، فقد كان يريد لتركيا أن تكون مستقلة القرار، من خلال إصلاحات في مجال الصناعات الثقيلة. وكان لفكرة الاستقلال الصناعي هذه أثرها في تفكير والدي حين كان منخرطا في السياسة ضمن حزب الرفاه” كما قال لي سلجوق.
ومن الواضح أن المهندس سلجوق على وعي تام بأهمية البيئة السياسية، فهو يرى إلى أن النجاح في التصنيع العسكري لا يتم إلا في بيئة سياسية مواتية، وأن “التحديات السياسية” التي تواجه رواد التصنيع العسكري قد تكون أصعب أحيانا من “المشكلات التقنية” التي اعتادوا التعاطي معها يوميا. ومن حسن حظ شركة بايكار أنها وجدت بيئة سياسية مواتية لمشاريع التصنيع العسكري خلال حكم حزب العدالة والتنمية، وقيادة الرئيس أردوغان، الحريصة على رعاية المشاريع الصناعية الرائدة التي تضمن لتركيا استقلال قرارها الإستراتيجي، وتحرُّرها من الارتهان للحلفاء الغربيين الذين يريدونها تابعة لا شريكة لهم.
ومن الواضح كذلك أن شركة بايكار ومسيَّراتها العسكرية ليست الوحيدة التي حظيت برعاية القيادة التركية. إذ يوجد في تركيا اليوم عدد وافر من شركات التصنيع العسكري التي تعتمد على رعاية الدولة، دون إغفال لدور القطاع الخاص في هذا المضمار. ويتضح هذا الأمر من توسع معرض الصناعات الدفاعية التركية SAHA EXPO الذي ينتظم في إسطنبول منذ عام 2015، إذ يظهر التطور والاتساع المطَّرد في الصناعات العسكرية التركية في كل موسم جديد من هذا المعرض السنوي. وفي زيارتي للمعرض خلال انعقاده هذا العام ما بين 22 و26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2024 وجدتُ أن نحو 1400 شركة صناعية عسكرية تشارك في المعرض بمنتجاتها.
وقد تداولت مراكز دراسات غربية ادعاءات عن مجاملات سياسية لشركة بايكار على حساب شركات تركية منافسة، بسبب علاقة سلجوق العائلية بالرئيس أردوغان، ومن هذه المراكز “مرصد المسيَّرات” التابع لوزارة الدفاع الفرنسية، الذي أطنب في هذه المزاعم في دراسة طويلة له بعنوان: “صناعة المسيَّرات التركية” صدرت في شهر يوليو/تموز 2024. ويمكن اعتبار ما ذكره مركز “مرصد المسيَّرات” الفرنسي جزءا من الحرب الدعائية الفرنسية ضد استقلال تركيا في مجالات صناعة الدفاع، إذ يتضح من هذه الدراسة الفرنسية -وهي صادرة من جهة رسمية- أن فرنسا متضايقة جدا من خسارة نفوذها الاستعماري في دول غرب أفريقيا، الذي كان التسليح والتدريب من أهم مظاهره. وعموما فإن الإمبراطوريات الشائخة المحالة إلى التقاعد تكون طويلة اللسان أحيانا، تعويضا عن مجدها الآفل.
وقد كشفت دراسة مرصد المسيَّرات الفرنسي عن قلق فرنسي عميق من علاقات تركيا ببلدان فيها “نفوذ تقليدي فرنسي” حسب تعبير الدراسة، التي سمّت من هذه الدول: مالي والنجير وبوركينافاسو والمغرب وتونس وتشاد وجيبوتي، كما تبيَّن من الدراسة أن الفرنسيين متضايقون بشكل غريب من كون تركيا حريصة على التضامن السياسي مع الدول الإسلامية، وعلى تقوية الروابط التجارية والعسكرية معها، وأن “المسيَّرات التركية غالبا ما تباع لدول تربطها روابط دينية وثقافية بتركيا” حسبما ورد في التقرير.
وقد اطلعتُ على عدد لا بأس به من منشورات مراكز الدراسات الغربية، خصوصا الأميركية والبريطانية والفرنسية، عن المسيَّرات التركية التي تصنعها شركة بايكار، فوجدتُ أن هذه الدراسات، ومثلها وسائل الإعلام الغربية، لا تخلو من الحَنَق السياسي والتحيز الديني، في تناولها لهذا الموضوع. فحين قاتلتْ مسيَّرات بيرقدار في أذربيجان سمَّاها الإعلام الألماني “المسيَّرات القاتلة”، وحين قاتلت في أوكرانيا سمَّاها الإعلام ذاته “سلاح الأمل”! ولا يزال كتَّاب غربيون يروجون مقولة أن تركيا لا تستطيع الاستغناء عن التكنولوجيا العسكرية الغربية، فهم يعجزون عن استيعاب انتقال تركيا من زبون إلى منافس في هذا المضمار، ويشككون في سعيها للاستقلال في مجال الصناعات العسكرية. بينما يسعى أعضاء من الكونغرس الأميركي إلى تعويق إقبال العديد من الدول على شراء المسيَّرات التركية، بدعاوى وذرائع متهافتة، وهاجسهم الحقيقي هو أن مسيرات بيرقدار سحبت البساط من تحت المسيرات الأميركية والإسرائيلية في مناطق عديدة من العالم.
والحقيقة أن تاريخ شركة بايكار يدل على معاناتها أكثر من مرة من تباطؤ البيروقراطية الرسمية في تركيا في تنفيذ العقود المتفق عليها مع الدولة، وكثيرا ما اشتكى سلجوق في أحاديثه الإعلامية من تلك البيروقراطية الثقيلة الظِّل. كما أن الرئيس أردوغان -برحابة رؤيته- دعَم عشرات الشركات الأخرى، ضمن رؤية إستراتيجية وطنية شاملة، رفعت تركيا إلى مصافِّ الدول ذات القوة العسكرية الضاربة، والقدرة على تصدير السلاح لدول أخرى عديدة. وفي هذا السياق يأتي اعتزاز الرئيس أردوغان بمنجزات صهره سلجوق وشركة بايكار في هذا المضمار، شأنه شأن الملايين من الأتراك الذين يرون في هذه المنجزات مصدر فخر واعتزاز وطني، ونافذة مضيئة على المستقبل.
لكن العلاقة العائلية بين الرئيس وصهره لم تكن لتمرَّ دون مشاغبات الإعلام. ولذلك سألتُ سلجوق هل هو راضٍ عن الدعم السياسي لمشاريعه الصناعية مقارنة مع الرواد الذين سبقوه ولم تنجح مشاريعهم؟ وهل تمثِّل له هذه العلاقة له نوعا من الرأسمال السياسي المفيد لمشاريعه التكنولوجية، أم أنها تتحول عبئا سياسيا عليه أحيانا، خصوصا حين تثير الصحافة المعارضة أو مراكز الدراسات الأجنبية المعادية الشكوك حولها؟ فأجاب بأن الحكومة التركية تدعم كل “الابتكارات التكنولوجية” و”المبادرات التكنولوجية” في البلاد دون تمييز بينها، وأن الاتهامات في هذا السياق لا قيمة لها، وهي لا تستحق أن يأخذها مأخذ الجدِّ، وأن قدوته في هذا السبيل هو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق، الذي كان يرفض أن تُؤثَر إبلُه على إبل غيره بمكان خاص في المرعى. وهو يشير هنا إلى فكرة “أرض الحِمَى” في التاريخ، وهي أرض كان يحتكرها الملوك والسلاطين لأنفسهم دون عامة الشعب، وقد رفض أبو بكر الصديق فعل ذلك تقيُّدا بالحديث النبوي: “الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنار”.
وهنا سألتُ سلجوق هل يخشى من تأثير التغيرات السياسية والتقلبات الانتخابية على هذه المشاريع التي رصد لها حياته وجهده، وهل يفكر في الانخراط في السياسة بشكل عملي، كما انخرط فيها قبله نوري ديميراغ منتصف القرن العشرين؟ فأجاب بأنه ليس لديه طموح لتولي مناصب سياسية، لكنه مهتمٌّ بالمقاصد السياسية الكبرى، والمصالح الوطنية العليا، وبأن لديه رسالة أوْقَف حياته عليها، وأهدافًا فرَّغ وقته لتحقيقها، منها طائرة “التفاحة الحمراء” المسيَّرة، وبعض المشاريع ذات الصلة بالفضاء التي تنفذها شركة “فرغاني” لتكنولوجيا الفضاء، وهي شركة أسَّسها عام 2022، وتولى رئاستها التنفيذية، إلى جانب مهماته الأخرى العديدة. وتعتزم شركة “فرغاني” بناء نظام يتضمن 100 قمر صناعي ينطلق الأول منها هذا العام، وتوسيع برنامج الفضاء الخاص بها ليشمل نظاما عالميا لتحديد المواقع خاصا بتركيا، رغم أنه لا توجد سوى بلدان قليلة فقط في العالم لديها أنظمة مماثلة، وهي: نظام “GPS” الأمريكي، و”غاليليو” الأوروبي، و”غلوناس” الروسي، و”بايدو” الصيني. ولذلك فإن أولوية سلجوق السياسية هي الإسهام في تحقيق الاستقلال التكنولوجي لتركيا، وسيطرتها على سمائها.
ومن المؤكد أن سلجوق لا تنقصه الكاريزما، ولا الشعبية في المجتمع، وهما أهم شرطين للنجاح في اقتحام الفضاء السياسي، لكن السياسة بمعناها الحزبي الضيِّق ليس من أولويات المهندس، بل القيادة بمعناها الكلي الواسع. وهو يرى أن بعض الناس يمكن أن يكونوا قادة دون أن يكونوا سياسيين، ويضرب مثلا على ذلك بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي كلاي (1942-2016)، الذي يقول سلجوق إنه لم يكن ملاكما عاديا، فالملاكمون العاديون هم أولئك الذين هزمهم محمد علي في الحلَبة. فلَكَمات محمد علي الحقيقية -في رأي سلجوق- ليست تلك التي وجَّهها إلى أجساد منافسيه الرياضيين، وصفَّق له كل العالم من أجلها، بل هي تلك التي وجَّهها المظلومون والمستضعفون من خلاله إلى وجه الاستعمار والإمبريالية، إشارةً إلى موقف محمد علي الرافض للحرب الأميركية على فيتنام. فمحمد علي “كان صاحب رسالة، أما الملاكمة فكانت مجرد وسيلة بالنسبة له” حسب تعبير سلجوق. فمحمد علي كان قائدا عظيما، لكنه لم يكن سياسيا، وهذا النوع من القادة هم الذين يرى فيهم سلجوق قدوة وإلهاما.
عن دبلوماسية المسيرات
في مطلع شهر مارس/آذار عام 2022 انتشرت أغنية أوكرانية على الانترنت انتشار النار في الهشيم، تمجِّد كلماتها مسيَّرات “بيرقدار” التركية. وهي من كلمات وتلحين الجندي الأوكراني تاراسْ بوروفوك. ومما ورد في كلمات الأغنية:
“جاءتنا الخراف لتعيد بناء الدولة القديمة
ولدينا راع لهذه الخراف
هو بيرقدار…
جاءوا بكل جيوشهم ومعداتهم وصواريخهم القوية
ولدينا تعليق من كلمة واحدة:
بيرقدار!”
ولم تكن أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي برهنت فيها مسيَّرات بيرقدار على كفاءتها، بل ظهرت هذه الكفاءة أيضا في ليبيا خلال التدخل التركي لصالح الحكومة الشرعية في طرابلس ضد تمرد الجنرال خليفة حفتر، وفي إثيوبيا ضد المتمردين التيغراي، وفي شمال سوريا في عملتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
لكن النجاح الذي بهر العالم بسرعته وفاعليته هو أداء مسيَّرات بيرقدار خلال استعادة أذربيجان لأراضيها في إقليم قره باغ من الاحتلال الأرمني الذي دام ثلاثة عقود. فقد أبْلتْ هذه المسيَّرات في أذربيجان بلاء حسنا، ومنحت الأذربيجانيين تفوقا نوعيا، ساعدهم على استعادة أرضهم المحتلة بسهولة ويسر. وقد ورد في بعض التقارير أن مسيَّرات بيرقدار دمرت ما لا يقل عن 185 دبابة أرمنية في تلك الحرب، فضلا عمَّا دمرته من مدفعية وأنظمة دفاعية.
وبسبب هذا الأداء الفعال لمسيرات بيرقدار، تزاحمت دول كثيرة على طلب اقتنائها، وأصبحت شركة بايكار من أهم مصدِّري التكنولوجيا العسكرية، وتضاعفت صادراتها في مدة وجيزة. ومنحت مسيَّرات “بيرقدار” تركيا سمعة كبيرة على المستوى العالم كله، وفتحت لها آفاقا واسعة من العلاقات الدبلوماسية والتعاون السياسي والعسكري، فيما سمَّته دراسة لمؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية SETA في تركيا “إستراتيجية المسيَّرات”، وسمَّاه مقال بمجلة (فورين أفيرز) الأميركية “دبلوماسية المسيَّرات”.
لقد غيرت المسيَّرات العسكرية طبيعة الحرب في الأعوام الأخيرة، وأحدثت طفرة في الشؤون العسكرية، فأصبحت الجيوش الصغيرة التي تملك مسيَّرات قادرة على إرباك الجيوش الكبيرة واستنزافها. ومن الميزات التي جعلت المسيَّرات تغير من طبيعة الحرب: جمْعها بين مهمتين أساسيتين في الوقت ذاته، وهما: الاستطلاع والقتال، وتقليلها خسائر المهاجِم لأنها طائرات من دون طيار تدار عن بعد بطريقة آلية، وتقليلها الخسائر الجانبية للحرب بشكل عام نظرا لدقة تسديدها إلى أهدافها، وقدرتها على القتال في أماكن وعرة دون مخاطرة بحياة الجنود، وتقديمها صورة حية عن ميدان القتال مما يسهِّل الحركة والمناورة، وقدرتها على التملص من رصد الرادارات نظرا لصغر حجمها ورشاقتها، وسهولة استخدامها لأنها لا تحتاج بنية لوجستية معقَّدة أو تدريبا معقًّدا.
وامتازت مسيَّرات بيرقدار العسكرية التركية عن المسيَّرات التي تصدِّرها الدول الغربية بميزات أخرى لا تقل أهمية منها: أن ثمنها رخيص جدا مقارنة مع المسيَّرات الغربية، فهو يكون عادة في حدود الثلث أو النصف من ثمن المسيَّرات الأميركية، مما جعل الدول الفقيرة قادرة على اقتنائها. ومنها أن المسيَّرات التركية مجرَّبة في الميدان في أكثر من ساحة ملتهبة، وأن صيانتها سهلة، ونقلَها سهل، فمسيَّرات بيرقدار TB2 مثلا -وهي أكثر المسيَّرات التركية مَبيعًا- يمكن نقلها بأي شاحنة عادية. ومنها أيضا أن شراء المسيَّرات التركية ليس مصحوبا بشروط سياسية وقانونية معقَّدة، من النوع الذي تفرضه الدول الغربية على مشتري سلاحها، وأنها لا يصحبها تدخُّل في الشؤون الداخلية للدول المشترية، ولا يسعى مصنِّعها إلى التجسس على مشتريها، كما فعلت إسرائيل مع تركيا.
لقد برهنت مسيَّرات بيرقدار على كفاءة عالية مقارنة بالمسيَّرات التي تصنِّعها الدول الغربية. أما على مستوى الإقليم فقد أبدت الصناعة التركية تفوقًا واضحا على نظيرتها الإيرانية في صناعة المسيّرات. فحين تحطمت المروحيّة الإيرانية التي كانت تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في شهر مايو الماضي. قضى الإيرانيون ساعات طوالا بحثًا عن حطام الطائرة الرئاسية، فلما استيأسوا، ناجوا الترك، طالبين منهم المساعدة. فكلف الجيش التركي إحدى طائرات آكنجي المسيَّرة التي كانت في أجواء تركيا بالمهمة، وحين اعترض الإيرانيون على دخول المسيَّرة المسلحة أجواءهم، انطلقت مسيَّرة آكنجي أخرى غير مسلَّحة إلى إيران، وحوَّمت فوق المنطقة الجبلية على الحدود الأذربيجانية الإيرانية، لتبعث بإحداثيات الطائرة المتحطمة إلى الحكومة الإيرانية، ثم ترسم صورة العلم التركي خلال عودتها، توقيعًا وختْمًا على انتهاء رحلة مظفَّرة.
وقد اشترت عشرات الدول مسيَّرات بيرقدار، وكانت دولة قطر سبَّاقة إلى شرائها. فهي أول دولة استخدمت قواتها مسيَّرات بيرقدار الصغيرة عام 2012 بعد أن دخلت في خدمة الجيش التركي، ثم اشترت مجموعة من طائرات TB2 عام 2018، فكانت أول مستورد لها من خارج تركيا. ومما يرغِّب في شراء مسيّرات بيرقدار أن تركيا مستعدة لمشاركة بعض الدول الشقيقة والصديقة جوانب من تكنولوجيا المسيَّرات، من خلال إشراكها في إنتاجها. وقد أعلنت وزارة الدفاع السعودية يوم 6 أغسطس/آب 2023 التوصل إلى اتفاق مع شركة بايكار “لـتوطين صناعة الطائرات المسيَّرة بيرقدار آكينجي والأنظمة المكوِّنة لها داخل المملكة”. وهذا النمط من التعاون على قدر كبير من الأهمية، لأنه يوثِّق العلاقات بين الشعوب الشقيقة، ويساعد الدول المشترِية على اكتساب خبرة التصنيع والاكتفاء الذاتي مستقبلا، وهو خروج على المألوف من سياسات التصنيع العسكري الغربي، التي تحرص على الاحتكار، وحرمان المشترين من اكتساب خبرة الإنتاج العسكري، لكي يظلوا معتمدين عليها إلى الأبد.
ولا تكشف شركة بايكار عن جميع زبنائها في هذا المضمار، ولذلك فإني لم أسأل سلجوق عن عدد زبناء الشركة وهوياتهم، لأسباب مفهومة. لكن المعلومات المتاحة في وسائل الإعلام ومراكز الدراسات التركية والغربية المهتمة بهذا الموضوع تذكر أن الدول التي اشترت مسيَّرات بيرقدار تصل إلى ثلاثين دولة على الأقل، ومنها من الدول العربية: قطر، والسعودية، والإمارات، والكويت، والعراق، وليبيا، والمغرب، وجيبوتي، والصومال. ومن الدول الإفريقية غير العربية: مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وإثيوبيا، والتوغو، ونيجيريا، ورواندا. ومن الدول الآسيوية: أذربيجان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وباكستان، وبنغلاديش، والمالديف. ومن الدول الأوروبية: أوكرانيا، وبولندا، وفنلندا، وليتوانيا، ورومانيا، وألبانيا، وكوسوفا. وهذه دول مهمة لتركيا لأنها جزء من الحدود الشرقية لحلف الناتو.
ومع ذلك أكد لي سلجوق أن الشركة لا تبيع مسيَّراتها لكل دولة تطلبها، بل هي قد رفضت بالفعل بيعها لعدد من الدول: “فنحن لا نبيع من أجل المال فقط” كما قال. ولم يكشف لي عن هوية تلك الدول التي رفضوا بيعها مسيَّراتهم لأسباب مفهومة. لكن يُلاحظ كثافة الحضور الإفريقي بين الدول المستورِدة لمسيَّرات بيرقدار، وهو أمر مهم ضمن الإستراتيجية التركية لتوثيق العلاقات مع الدول الإفريقية، عبر وسائل عديدة، منها الاستثمار، والتعاون الأكاديمي، وتصدير السلاح.
ويجب ألاَّ ننسى هنا أن دولا أخرى اشترت مسيَّرات عسكرية تركية غير مسيَّرات بيرقدار، خصوصا مسيَّرة “العنقاء” ومسيَّرة “آق سنقر”، ومن هذه الدول: الجزائر، وتونس، وكازاخستان، وتشاد، وأنغولا، وماليزيا، وإندونيسيا. وهذان الصنفان من المسيَّرات ليسا من صنع شركة بايكار، بل من صنع شركة الصناعات الفضائية التركية TAI، وهي الشركة التي استهدفها هجوم إرهابي مؤخرا، في مظهر آخر من مظاهر استهداف النهضة التركية في مجال الصناعات الدفاعية.
نحو ديمقراطية تكنولوجية
من الأمور التي تهم سلجوق كثيرا المشاركة في بناء عالم أكثر إنصافا في مجال التكنولوجيا، بما فيها التكنولوجيا العسكرية. وهو يرى أنْ ليس من الإنصاف كون الميزانية العسكرية لدولة واحدة (الولايات المتحدة) مساوية لميزانيات جميع دول العالم الأخرى، ولا من الإنصاف أن تحتكر بضع شركات ثريَّة منصات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث على الإنترنت. فالبشرية بحاجة اليوم إلى بيئة تكنولوجية عادلة، وقواعد منصفة للمشاركة في ثمرات الثورة التكنولوجية. وبهذا يمكن القول إن سلجوق بيرقدار من دعاة “الديمقراطية التكنولوجية”. وقد ذكَّرتني كلماته في هذا المضمار بمقولة الرئيس أردوغان التي لا يفتأ يرددها، وهي أن “العالم أكبر من خمسة”، إشارة إلى الاختلال في النظام الدولي الناتج عن احتكار خمس دول لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، وهي دول ينتمي بعضها -مثل فرنسا وبريطانيا- إلى “قوى الماضي” لا إلى “قوى المستقبل”، بحسب وصف المفكر السياسي السنغافوري كيشور محبوباني.
وقد كانت تجارب الدول العربية في التصنيع العسكري حاضرة في ذهني وأنا أحاور المهندس سلجوق بيرقدار. وهي مساعٍ كانت غايتها تحقيق الاستقلال الإستراتيجي، والتحرر من أثقال السطوة الغربية، لكن جميع تلك المساعي انتهت موءودةً قبل نُضجها، وتهشَّمت في عنق الزجاجة، بسبب الوهَن الداخلي، والتعويق الخارجي، وضعف العزائم الوطنية، ونقص الحكمة السياسية. فكانت تلك التجارب المخيبة للآمال تمُرُّ كالشريط المشوَّش المتقطِّع في ذاكرتي، وكانت تلحُّ على خاطري صورة العلماء العرب والمسلمين الذين قُتلوا غِيلةً وغدرًا في العصر الحديث، والصناعات العسكرية التي دُمِّرت أو فُكِّكتْ، سعيًا لوأد أي نهضة في هذه الأمة. وآخر ذلك تفكيك مشاريع التصنيع العسكرية العراقية، بعد أن قطعت شوطا بعيدا من الإنجاز.
فكان السؤال الذي يكبر في ذهني لحظة بعد لحظة أثناء الحوار مع سلجوق هو: كيف سمحتْ دول عربية كبرى، مثل مصر والعراق وسوريا، بوأد جهودها في التصنيع العسكري، واغتيال علمائها، وتفكيك مصانعها، قبل أن تحقِّق الحصانة الإستراتيجية التي تضمن لها الاستقرار والاستمرار؟ وكيف سمحت إيران باغتيال خيرة علمائها النوويين على أيدي الموساد الإسرائيلي؟ وكيف أُجبِرتْ باكستان على الانحناء أمام الابتزاز الغربي، فوضعتْ رائد برنامجها النووي عبد القدير خان (1936-2021) تحت الإقامة الجبرية في خواتيم حياته، وهو الذي يستحق أن يرفعه الناس في باكستان وفي جميع العالم الإسلامي على رؤوسهم؟
فسألتُ المهندس سلجوق: كيف لتركيا أن تتجنب ظاهرة التهشيم في عنق الزجاجة التي تكررت مع دول أخرى في منطقتنا؟ وهل يعتقد أن لتركيا بجهودها الماضية والحالية قد ضمنت لنفسها مسيرة إلى المستقبل في مجال الصناعات الدفاعية لا عودة منها إلى الوراء؟ وبماذا ينصح الشعوب والنخب السياسية العربية لتحقيق نهضة مستمرة في الصناعات العسكرية، وعدم تكرار الانكسار في عنق الزجاجة؟ وكيف يمكن للدول الإسلامية تحقيق التوازن بين الاستقلال في الصناعات العسكرية، وضرورة التحالف والتعاون مع بعض القوى الدولية التي لا تريد للعالم الإسلامي نهضة أو استقلالا؟
فأجاب بأن الثقافة التكنولوجية يجب أن تتجذَّر في أعماق المجتمع، لضمان استمرار النهضة الصناعية في أي بلد. وبذلك تصبح التكنولوجيا مُلْكا مشاعا للمجتمع كله، وثقافة منطبعة في أذهان الجميع، وليست منحصرة في ثلة من المتخصصين، أو في نخبة علمية محدودة. فالثقافة العلمية الضاربة الجذور في أعماق المجتمع لا يمكن اقتلاعها في رأي سلجوق. وهو يستدل على ذلك بتاريخ ألمانيا المعاصرة: “فقد قُصِفتْ ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية حتى عادت إلى العصر الحجري. لكنها سرعان ما استعادت مسيرتها العلمية والتكنولوجية، لأن الثقافة الصناعية كانت متجذرة في شعبها وفي مؤسساتها”، كما يقول.
ويبدو أن سلجوق يعوِّل على مبدأ الديمقراطية التكنولوجية، بمعنى نشر الثقافة العلمية والصناعية في جميع طبقات المجتمع، فهذا هو الذي يحقق الحصانة المستقبلية للمشاريع الرائدة التي يقودها. ومن أهم وسائله في تحقيق ذلك مهرجان تكنوفيست (TEKNOFEST) الذي تمول شركة بايكار نصف ميزانيته، ومؤسسة “فريق تركيا للتكنولوجيا” T3 التي تمولها الشركة بالكامل.
أما مهرجان “تكنوفيست” فهو تجمُّع سنوي ضخم لتكنولوجيا الفضاء والطيران في تركيا، ويُعتبر أكبر مهرجان من نوعه في العالم، وهو ينتظم كل عام منذ انطلاقته الأولى عام 2018، وقد شهد إقبالا واسعا في السنوات التالية، حتى وصل عدد زواره عام 2024 أكثر من 1.650.000 زائر ا من جميع ولايات تركيا الإحدى والثمانين. ويهدف المهرجان إلى نشر الثقافة العلمية والصناعية، وتشجيع الشباب ذوي المواهب على عرض أفكارهم وابتكاراتهم في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل صناعة الطيران المسيَّر، والذكاء الاصطناعي، وصناعة الصواريخ، والروبوتات.. واستقطاب هؤلاء الطلاب الموهوبين الجادِّين للشركات الصناعية التركية، وتمويل مشاريعهم. وقد بلغ عدد الطلاب الذين زاروا مهرجان “تكنوفيست” لعام 2024.
نحو 400 ألف طالب. كما يضم المهرجان فعاليات علمية، وحوارات ثقافية، ومسابقات شبابية، وعروضا جوية. ويرى سلجوق أن مجرد حضور الأطفال مع أسرهم، ولمسهم الطائرات المسيَّرة بأيديهم الصغيرة، مكسب في ذاته. فقد علَّمته طفولته أن بعض ذكريات الطفولة لا تُنسى، وأنها هي التي تشكل شغف الإنسان واهتمامه حين يكبر.
وأما مؤسسة “فريق تركيا للتكنولوجيا” T3 فاسمها اختصارٌ لِكلمات ثلاث، تبدأ كل منها بحرف التاء في تسميتها الإنكليزية: Turkish Technology Team، وهي أكبر مؤسسة مانحة للطلاب في تركيا، وقد أسسها سلجوق عام 2016، وهو رئيس مجلس إدارتها، وحددت المؤسسة لنفسها رسالة هي: “دمج الشباب، والناس من كل الأعمار، في مسار التطور التكنولوجي.. باعتبار الرأسمال البشري المتعلِّم هو حَجَر الزاوية في تحقُّق الاكتفاء الذاتي لأي مجتمع أو دولة في مجال التكنولوجيا”. ولدى المؤسسة مبادرات كثيرة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وهي تقدِّم كل عام آلاف المنح الدراسية للطلاب المتميزين في هذه المجالات، وقد منحت 5000 طالب وطالبة من جميع الولايات التركية عام 2024.
ويؤمن سلجوق بأن استنبات التكنولوجيا وتوطينها يحتاج تغييرا شاملا في أعماق ثقافة المجتمع. وهو يرى أن الإدارة الوطنية للفضاء والطيران الأميركية (ناسا) لم تنجح هذا النجاح الباهر إلا لأنها دخلت وعي الجمهور الأميركي، وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبية الأميركية. فتمليك التكنولوجيا للشعوب هو التي يحصِّن المشاريع التكنولوجية الرائدة ممن يكيدون لها، ويريدون وقف إنتاجها أو إعاقة تطويرها. كما يذهب سلجوق إلى أن التغيير لا يكون من الأعلى للأسفل فقط -رغم أهمية القادة العظماء- وإنما يجب أيضا أن يوجد تغيير من الأسفل إلى الأعلى، بحيث يكون ضاربا بجذوره في أعماق المجتمع، ومتجسِّدًا في مؤسسات صلبة راسخة، لا تهزها الظروف العابرة، ولا تقتلعها الزوابع السياسية.
وهو يسمِّي هذا المنحى من العمل المتجذِّر في قيَم الشعب وثقافته “الثورة الصامتة”، ويقول إنه وشركاءَه يسعون إلى تحقيق هذا النمط من الثورة داخل تركيا. وقد لفت نظري تعبير “الثورة الصامتة” على لسان المهندس سلجوق. فهذا المفهوم الذي صاغه المفكر السياسي الأميركي رونالد إنغلهارت (1934-2021) في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، وجَد طريقه إلى الفضاء العام في تركيا، وقد استخدمه الرئيس أردوغان في مقابلة له مع قناة “الجزيرة” قبل عَقدين من الزمان، واعتبر التعليم هو البند الأول من بنود الثورة الصامتة.
التركيُّ ذو العيون الأربع!
لم يكن الحديث عن التفاحة الحمراء والتصنيع العسكري التركي ليكتمل دون وضعه في سياق التاريخ العسكري والجغرافيا السياسية. فمنذ نحو ألف ومائتيْ عام ألَّف الكاتب العربي الكبير عمرو بن بحر الجاحظ (776-869م) رسالته: “مناقب الترك”، وهي من أقدم النصوص العربية عن الأتراك، وفيها بسط الجاحظ القول في وصف براعة الجنود الأتراك في الرماية من فوق ظهور الخيل، وهي تقنية عسكرية لم تكن معروفة في المنطقة قبلهم. ويقول الجاحظ إن “التركي يرمي الطير والوحش… والناس… ويرمي… مُقبلاً ومُدبراً، ويَمنةً ويَسرةً، وصُعُداً وسُفْلاً”، وهو “يصيب بسهمه وهو مُدبر، كما يصيب به وهو مُقبل”. وأمام انبهار الجاحظ ببراعة الفرسان الأتراك في الرماية من فوق ظهور الخيل توصَّل إلى خلاصة طريفة، هي أن “للتركي أربع أعين: عينان في وجهه، وعينان في قفاه”! وربما يصلح حديث الجاحظ هنا عن الفارس التركي في العصر العباسي وصفا مجازيا لمسيَّرات بيرقدار اليوم، في سرعتها، ورشاقتها، ودِقَّتها.
وقد تذكرتُ نص الجاحظ عن التركي ذي الأعين الأربع وأنا أفكر في الجغرافيا السياسية المحيطة بتركيا اليوم، وقد جعلت منها دولةً متعددة الأبعاد الجيوستراتيجية، وفرضت عليها النظر المتوازي إلى أكثر من اتجاه، والتعامل المتوازي مع أكثر من معضلة. فموقعُ تركيا عند تلاقي الشرق والغرب، وتداخلُها التاريخي والجغرافي مع العالم العربي والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الغربية، وقربها من “البحار الملوَّنة” الحيوية (الأسود والأبيض والأحمر)، ومن المضايق البحرية الإستراتيجية، وتأثُّرها بالصراعات المتاخمة لها في سوريا وفلسطين وأوكرانيا، وانخراطها في الصراع على موارد شرق المتوسط من الطاقة.. كلها أمور تستلزم توازناتٍ دقيقةً، ونظراتٍ عميقةً إلى تداخل المساحات الرمادية. وتزداد أهمية هذه التوازنات مع انزياح مراكز القوة على المستوى الدولي اليوم، خصوصا صعود الصين، وصحوة روسيا، وتراجع النفوذ الغربي التقليدي.. مما دعوناه في دراسة سابقة “شروق الشرق وغروب الغرب“.
فربما يكون قدَر الأتراك أن يظلوا ينظرون بأربع أعين، بل لعلهم يحتاجون اليوم ثماني أعين، لا أربعا فقط. وفي هذا السياق يقول سلجوق إن منطقة الأناضول، والشرق الأوسط بشكل عام، هي مهد الحضارة البشرية، وفيها بدأ تاريخ الزراعة والصناعة، ومنها تمددت الحضارة الإنسانية إلى آفاق الأرض. وهي منطقة تقع في مركز العالم. فلا عجب أن تكثَّفت في هذه المنطقة التحديات والمخاطر، وتراكمت الفرص والإمكانات.. فسلجوق مدركٌ لحساسية المكان، وما يترتب عليه من خطر ومن إمكان.
وقد ظهرت مسيَّرات بيرقدار في خِضمِّ هذه التداخلات والتشابكات، فأثارت ردود فعل متباينة بتباين أثرها. فحين استُعملت هذه المسيَّرات في أوكرانيا ضد الجيش الروسي حصلت تركيا على ثناءٍ عطِرٍ من حلفائها الغربيين في الناتو، وحين استُعملت في تحرير الأراضي الأذربيجانية من الاحتلال الأرمني أخذت الحميَّةُ حلفاءَ تركيا الغربيين، وثارت ثائرتُهم، وعَلتْ أصواتهم المستنكرة! فلا يمكن فصل مسيَّرات بيرقدار عن تشابكات الجغرافيا السياسية، إذ إن تصدير السلاح يعني مشاركة غير مباشرة في صراعات عسكرية، وهو أمر لا يتم طبعا دون تراخيص رسمية من الدولة، تخضع لمواءمات دبلوماسية، وتقدير إستراتيجي، إلى جانب شِقِّها التجاري المحض.
ولعل المثال الأوضح على هذه التعقيدات هو تصدير مسيَّرات بيرقدار TB2 إلى أوكرانيا، ودورها في الحرب الروسية الأوكرانية. فمن الواضح أن تركيا مرتبطة بمصالح إستراتيجية مع الدولتين اللتين تجاورانها من الشمال على ضفة البحر الأسود، وأنها لا تريد التورط في مواجهة مع روسيا جرَّاء استخدام الأوكرانيين للمسيَّرات التركية. فروسيا دولة عظمى تعيش اليوم حالة انبعاثٍ وإثباتٍ للذات، ولتركيا لديها مصالح حيوية، ليس أقلَّها شأنا استيراد تركيا كمية ضخمة من الغاز الروسي، وبعض التكنولوجيا الدفاعية الروسية، ثم الوجود الروسي في سوريا عند خاصرة تركيا، وكون روسيا تبني محطة “آكويو” Akkuyu الضخمة للطاقة النووية في ولاية مرسين التركية، وهي أول محطة نووية تركية. ولذلك رفضت تركيا بشكل قاطع المشاركة في أي عقوبات اقتصادية غربية ضد روسيا بعد غزوها أوكرانيا.
فعلاقة تركيا بروسيا علاقات مركَّبة استطاع الطرفان صيانتها وتطويرها رغم الخلاف بينهما في مواقف جوهرية. ولم يؤد بيع تركيا مسيَّرات بيرقدار لأوكرانيا إلى قطيعة مع موسكو، وهذا دليل واضح على متانة هذه العلاقة وتعقيدها في الوقت ذاته. وقد نجح الطرفان في تجنُّب الصِّدام بينهما في ساحات أخرى ملتهبة، مثل ليبيا وسوريا وأرمينيا، رغم تناقض رؤيتهما وسياستهما في البلدان الثلاثة.
وفي هذا السياق سألتُ سلجوق: كيف تحافظ تركيا على هذا التوازن الدقيق بين روسيا وأوكرانيا مع تصدير مسيرات بيرقدار لأوكرانيا؟ فأجاب بأن اتفاقات شركته مع أوكرانيا سابقة على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بفترة طويلة، وأن الشركة لا مناص لها من الالتزام بتلك الاتفاقيات، خصوصا أن الأوكرانيين ليسوا هم من غزوا الأرض الروسية، بل روسيا هي التي غزت بلادهم، إضافة إلى أن الأوكرانيين كانوا يقدمون بعض الخدمات المهمة لشركة بايكار، فهم شركاء لها في تصنيع محركات طائرات “التفاحة الحمراء” وطائرات “آكينجي”. وعلى كل حال فهو يؤكد أن الشركة لا تبيع المسيرات لأوكرانيا “من أجل إسعاد الناتو”، بل التزامًا بمواثيق يتعين عليها الالتزام بها.
ويبدو أن تعقيدات العلاقات بين تركيا وروسيا تجعل استمرار التعاون بين شركة بايكار وأوكرانيا أمرا صعبا. فطبقا لدراسة أصدرها المعهد الملكي للخدمات المتحدة RUSI -وهو مؤسسة بحثية بريطانية- فإن مسيَّرات TB2 التي أبلت بلاء حسنا في بداية الحرب الروسية الأوكرانية، اختفت من أجواء أكرانيا تماما لمدة عام كامل، ما بين سبتمبر 2022 وسبتمبر 2023 لأسباب مجهولة. كما تضاربت التقارير الإعلامية -نفيا وإثباتا- حول تراجع شركة بايكار عن تأسيس مصنع لتصنيع مسيَّرات بيرقدار في أوكرانيا. ولا يمكن فصل هذا الموضوع -في رأينا- عن التوازنات الدقيقة في علاقة تركيا بكل روسيا وأوكرانيا.
تخلف الضمير عن العلم
ما كنت لأضيع فرصة اللقاء مع سلجوق بيرقدار -وأنا المهتم بفلسفة الدين- دون أن أسأله عن قضايا العلم والإيمان والضمير في عصرنا. فأمطرته بأسئلة كبرى في هذا الموضوع، منها: ما هي الطريقة التي صالح بها بين شِقَّيه العلمي والإيماني، وهل هو يرى أن التكنولوجيا والتقدم العلمي يمكن أن يخدم الإسلام في العالم المعاصر؟ وكيف يرى مستقبل البشرية في ضوء ثورة الذكاء الاصطناعي؟ وهل ستتفوق الآلة على الدماغ البشري مستقبلا؟ وهل سيضيِّق الذكاء الاصطناعي الفجوة بين البشر أم سيوسِّعها؟ وهل ستنتهي الحياة البيولوجية وتبدأ حياة غير بيولوجية على الأرض كما يتوقع البعض؟ وباختصار: هل نحن نشهد اليوم “نهاية التاريخ” البشري أو بداية تاريخ جديد للبشرية؟
يعتقد سلجوق أن مفتاح الأمر هنا هو الاعتراف بأن “الإنسان أشرفُ المخلوقات”، فالثورة الصناعية الحديثة منحت البشر قدرات هائلة، لكن “التطور في الآلة الصناعية كان أسرع من التطور الاجتماعي والأخلاقي”، وهذه مفارقة ظهرت منذ بداية الثورة الصناعية قبل عدة قرون، وهي لا تزال موجودة اليوم. وقد ذكَّرني حديث سلجوق هنا بأطروحة الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) عن دور العلوم والفنون في تدهور الأخلاق، وهي أطروحة فاجأت المجتمع الفرنسي في منتصف القرن الثامن عشر، في لحظة كانت فكرة التقدم ذات بريق آسر. كما ذكَّرني بما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) عن “تخلُّف الضمير عن العلم” في الحضارة الغربية المعاصرة.
ولا يزال السؤال عن العلاقة بين التطور العلمي والتطور الأخلاقي سؤالا ملحًّا اليوم، بل هو يزداد إلحاحا وأهمية، في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ويزداد الخوف من عدم قدرة البشر على التكيف الاجتماعي والأخلاقي مع هذه الثورة الصناعية الجديدة. ويخشى سلجوق من أن هذا الأمر قد يؤدي إلى استقطابات حادَّة في المستقبل بين الأفراد، وبين الجماعات البشرية، وهذا أمر بدأت أعراضه بالفعل على منصات التواصل الاجتماعي، وهو يشير إلى عجزنا عن “التكيف الاجتماعي” مع التكنولوجيا الجديدة. وليست المسيَّرات العسكرية المزوَّدة بالذكاء الاصطناعي ببعيدة عن هذه التساؤلات الأخلاقية الكبرى، فحين تنوب الآلة عن الإنسان في اتخاذ قرارات تتعلق بالموت والحياة، يصبح السؤال الأخلاقي أكثر إشكالا وإعضالا.
وهذا يقودنا في رأي سلجوق- إلى أسئلة جوهرية مثل: ما هو الإنسان؟ وما هي التكنولوجيا؟ وما هي غاية كل منهما؟ فيجب في رأيه أن تكون غاية التكنولوجيا هي خدمة الإنسانية بأسرها، لا تجميع القوة والسلطة في أيدي بعض الأفراد أو بعض الدول. فصناعة الإذاعة والطائرة -مثلا- كان يُفترض أن يكون الغاية منها التقريب بين مكونات الأسرة الإنسانية، لكن حين أسيء استخدام هاتين الوسيلتين كانت النتائج مدمِّرة. على أن البشر قد صنعوا من الآلات ما يكفي لتدمير الحياة البشرية ذاتها منذ أمد بعيد، كما يقول سلجوق –في إشارة إلى السلاح النووي- لكن ذلك لا يُعفينا من واجب المحافظة على إنسانية الإنسان ومكانته العالية في سلَّم المخلوقات.
فالإنسان ليس آلة ولا وسيلة، ولا يحق لنا التقليل من قيمته، والمبالغة في قيمة التكنولوجيا، فالآلة مهما يكن ذكاؤها تظل وسيلة في نهاية المطاف، كما أن “الحقيقة الإنسانية تظل أعمق من أي حقيقة تكنولوجية. نعم.. ربما تصبح بعض الآلات أشدَّ ذكاء منا، وربما تهزمها الآلة في لعبة الشطرنج، وقد تستطيع الآلة تقليد أعظم الأعمال الفنية. لكن هذه الآلة لا ضمير لها ولا إحساس” كما يقول سلجوق.
أما في قضية الإيمان فهو يرى أن هذا الكون البديع الذي نعيش فيه ناطق بوجود الخالق وكرمه ورحمته. ويبقى للإنسان أن يختار الاعتراف بذلك أو التنكّر له. على أن التنكر للوقائع الصلبة لا ينفي وجودها. فإذا تنكر الإنسان لفضل أمه عليه -مثلا- فإن ذلك لا يغير من حقيقة فضلها عليه. فالإيمان فعل إرادي يتعلق بالاعتراف بوجود الخالق وأفضاله علينا، كما أن الكفران بهذه الأفضال فعل إرادي أيضا، لكنه لا يغير من حقيقة تلك الأفضال، لأن حياتنا ناطقة بها. وقد ذكّرتني الطريقةُ التي يطرح بها سلجوق قضية الإيمان بطريقة الفيلسوف وعالم النفس الأميركي ويليم جيمس (1842-1910) في كتابه “إرادة الاعتقاد”.
ولم يكن الحديث عن العلم والإيمان والضمير ليكتمل دون تناول “طوفان الأقصى”، وما كشفه من فقر الضمير لدى الإسرائيليين وداعميهم الأميركيين. وكان حديث سلجوق إليَّ عن غزة مفعما بالمرارة والغضب، فهو لا يُخفي تعاطفه وتضامنه مع أهل غزة، وقد تبرَّعت شركته “بايكار” بعشرة ملايين دولار للعمل الإنساني في غزة، وهو أكبر تبرع من شركة خاصة لقضية غزة حتى الآن، ومع ذلك فهو يقول إن هذا المبلغ “ليس بشيء في حقِّ غزة”. كما تبرعت شركته أيضا قبل ذلك بمبلغ 150 مليون دولار لضحايا الزلزال في تركيا. وفي سياق حديثه عن “طوفان الأقصى” تساءل بغضب: “لماذا لا نُجنِّب الأطفال -على الأقل- هذه الإبادة؟ فهذه الفظائع لا مثيل لها في التاريخ، باستثناء فظائع فرعون وهتلر”!
وكان سلجوق نشر منذ شهور مقالا على موقع الجزيرة نت بعنوان: “لأجل عالم عادل قِفْ مع فلسطين”، يعبر فيه عن تضامنه مع أهل غزة، ويدافع فيه بقوة عن حق الفلسطينيين في العدالة، وحق أطفال غزة في الحياة الكريمة، مستذكرا أيام دراساته في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا قبل عشرين عاما، وكيف كان يومها ناشطا مع مجموعة من الطلاب “لرفع مستوى الوعي حول النضال الفلسطيني”، وعبَّر عن سعادته بأن الاحتجاجات على الفظائع في غزة “اجتاحت الولايات المتحدة وأوروبا، بما في ذلك أعرق الجامعات في العالم، مثل: هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكولومبيا، وغيرها”. وهكذا يجب أن يكون الوقوف في وجه الظلم دائما: ” فنحن لسنا مجرد مراقبين سلبيين، بل نحن مشاركون نشطون في تشكيل النسيج الأخلاقي لمجتمعنا” كما يقول. وقد استشهد سلجوق في مقاله بقطعة شعرية تقول:
“ما أعرفه هو أن الحياة
تعني القتال تحت سماء صافية..
من أجل الأطفال.”
وختمه بالقول: “إن الفلسطينيين يؤدون واجبهم بالمقاومة. إننا جميعًا بحاجة إلى التغيير. كلنا، وليس مجرد حفنة من الناس الذين يدافعون عن العدالة في فلسطين.”
وقد ربط سلجوق محنة غزة بحالة العبودية العقلية والأخلاقية التي تعيشها النخب الأميركية والغربية، وحالة انعدام الضمير لديها في علاقتها بالإسرائيليين. فهو يرى أن قدرة الإنسان على التفكير المستقل هي ما يميزه عن بقية المخلوقات الأرضية، وأن رسالة الأنبياء، وجهود خِيرة العقول البشرية، تركَّزت عبر التاريخ على تحقيق الاستقلال العقلي والأخلاقي للإنسان، وما كانت التحوُّلات العميقة التي أحدثها هؤلاء الأفذاذ إلا “بخروجهم على المألوف العقلي، وتحدِّيهم للمعايير السائدة” حسب تعبيره، وبذلك غيَّروا مصائر البشرية، وارتقوا بها إلى مراتب من الحضارة أنبلَ وأعدلَ.
لكنه يرى أن النخب الغربية المتحكمة في العالم اليوم فقدت استقلالها العقلي والأخلاقي، فبينما يعظ هؤلاء بقية شعوب العالم بضرورة تبنِّي النظام الديمقراطي واحترام كرامة الإنسان، يقفون خمسين مرة مصفقين لقادة أجانب سفَّاحين، يقتلون الأطفال تحت سمع وبصر العالم. وأسوأ السجون العقلية -كما يقول- هي أن يسجُن الإنسان نفسه، كما فعل أعضاء الكونغرس الأميركي في تصفيقهم لسفَّاح يقتل الأطفال وأمَّهاتهم، ويرددون دعايته “مثل الببغاوات” بشكل غير عقلاني على الإطلاق، حفاظا على كراسيِّهم في الكونغرس! فهذا وضع أسوأ حتى من وضع الدول الدكتاتورية، حيث يصفِّق الناس عادةً لقادة من بني جلدتهم وبني وطنهم، أما في الولايات المتحدة فهم يصفقون لسفَّاح يقود دولة أجنبية!
فهذا “بؤس كونيٌّ” كما يصفه سلجوق، وهو تلوُّث أخلاقي خطير على مصائر البشرية. والفارق بين العبودية القديمة والعبودية الجديدة هو أن العبيد في الماضي لم يكونوا راضين عن استعبادهم، أما عبيد إسرائيل من النخب الأميركية والغربية اليوم فهم خاضعون للعبودية عن طيب خاطر. فأنَّى للإنسان أن يفكر بحرية إذا كان هو السَّجين والسجَّان؟ وقد ذكَّرني حديث المهندس سلجوق هنا -مرة أخرى- بقول الشاعر جلال الدين الرومي: “لماذا تبْقَى في السجن والباب مفتوح على مِصْراعيْه”؟!
سِهام الزمن الآتي
أعتقد أن سؤال الرومي ليس موجَّهًا اليوم للنخب الأميركية وحدها، رغم أنها تنازلت عن ضمائرها بالفعل في علاقتها بإسرائيل. ولكنه موجَّه أيضا لنخب العالم الإسلامي التي تخلَّت عن عزائمها، ورضِيتْ بالدُّون. وهنا تظهر أهمية المهندس سلجوق بيرقدار ومشروعه، فهو سهم من السِّهام المرشدة إلى مستقبل أعزَّ وأعدلَ. وهذا المستقبل لم يعد حلما غائما، بل أصبح في المتناول، وبدأت بشائره العملية تلوح في الأفق.
فقد كشفت الأعوام القليلة الماضية عن مفارقة تاريخية تستحق التأمل: فبعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا مطلع عام 2022 بدأت أوكرانيا تستورد مسيَّرات بيرقدار التركية، وبدأت روسيا تستورد مسيَّرات “شاهد” الإيرانية. وقد تكون مساهمة المسيَّرات التركية والإيرانية في الحرب الروسية الأوكرانية مساهمة رمزية، بالنظر لحجم تلك الحرب وضخامة الأسلحة المستخدَمة فيها، لكن دلالتها التاريخية والإستراتيجية أكبر بكثير من أثرها العسكري. فلأول مرة في العصر الحديث تندلع حرب في أوروبا، ويستورد المتحاربون فيها أسلحتهم من دول العالم الإسلامي، فهذه سابقة لم تحدث منذ قرون.
وتدل هذه السابقة التي كشفتها حرب أوكرانيا على تحول تاريخي، وانزياح تدريجي للقوة، لا تخطئه عين المتأمل البصير. وإذا كان الأتراك والإيرانيون قد قطعوا أشواطا بعيدة على طريق التصنيع العسكري والاستقلال الاستراتيجي، فإن إخوانهم وجيرانهم العرب قادرون على ذلك أيضا، إذا استعادوا ثقتهم في ذاتهم، وعزائمهم السياسية، واستثمروا طاقتهم الكامنة، وإمكانَهم المهدَر، بتخطيط رصين، وحاسة إستراتيجية.
إن قصة البحث عن “التفاحة الحمراء” قصة لا نهاية لها، لأنها قصة الطموح إلى القوة العزة والكرامة، قصة أمة عظيمة تبحث عن مكانها اللائق بين الأمم، بعد أن عاشت مدة مديدة في مهانة واستباحة. وإذا كان الصينيون أفلحوا في الخروج مما يدعونه “قرن المهانة” (1840-1949) الذي أذاقهم فيه المستعمرون الغربيون واليابانيون صنوف الإذلال، ثم بدأوا خلال العقود الأربعة الماضية صعودا مدهشًا، فحريٌّ بالأمة الإسلامية اليوم أن تخرج من مهانتها المستمرة منذ الحرب العالمية الأولى قبل قرن وربع قرن، وأن تبني لنفسها مناعة ومكانة بين القوى الفاعلة في هذا العالم الذي لا يرحم المغفَّلين ولا المتبطِّلين. ألم يقل الشاعر الفيلسوف محمد إقبال منذ نحو مائة عام: “إن الدين من غير قوة مجرد فلسفة”؟