من ذاكرة “صبرا وشاتيلا”.. ميساء تمشي بين الجثث ورحاب تنتظر خبرا عن طفليها
رام الله/ غزة- بعد 3 أيام من الحصار الإسرائيلي لمخيمي صبرا وشاتيلا في الجنوب الغربي للعاصمة بيروت، كانت الشابة الفلسطينية ميساء تنصت إلى اتصال منتظر تلقته والدتها، فاطمة الخطيب، وأنبأها بوقوع مجزرة واسعة بحق الفلسطينيين في المخيمين.
استقلت ميساء ووالدتها مركبة سريعة من بيروت حتى مدخل مخيم شاتيلا، لمعرفة مصير خالتها وجدتها التي ذهبت لزيارتها هناك، وكان حاجز للأمن اللبناني يفصل بينهما.
بعد ساعات نفد صبر فاطمة التي بدأت بالصراخ والتقدم، حتى تمكنت من اختراق الحاجز ومن خلفها ابنتها ومئات الفلسطينيين الذين جاؤوا لمعرفة مصير أقاربهم في المجزرة الرهيبة التي بدأت 16 سبتمبر/أيلول 1982، وامتدت لـ3 أيام.
رائحة عالقة بذهني منذ 40 عاما
تصمت ميساء وتروي المشهد كأنه لم يغب عنها، ثم تقول “عندما تجاوزنا الحاجز الأمني شممنا رائحة كنا نعرفها تماما، إنها رائحة الدم والموت”.
كانت هذه الرائحة تزداد كلما اقتربت هي ووالدتها أكثر، وعلى بعد أمتار بدأ الناس يصطدمون بالجثث المصفوفة على طول مدخل المخيم، التي كانت مغطاة بأغطية للصليب الأحمر الذي تمكن من الدخول مسبقا، وبدأت والدتها بفحص الجثث واحدة واحدة لتتأكد أنها ليست لوالدتها وشقيقتها وأولادها.
وعلى بعد خطوات كانت جثة الجدة (غالية) ملقاة على كومة من الحجارة بعد أن ضُرب عنقها بواسطة “بلطة” وإلى جانبها جثة حصان انتفخ بطنه، وبدا أنهما قُتلا في أول أيام الحصار.
تقول ميساء الخطيب “عندما تقدمنا بدأت والدتي بالصراخ، حينها شاهدت جثة جدتي على مدخل بيت عائلة مقداد اللبنانية، وقد اختلط دمها بلون ثوبها الكحلي المزين بالورد الأبيض”.
صبرا وشاتيلا | ١٦-١٨ أيلول ١٩٨٢
*الصورة بعدسة المصورة الإيطالية باولا كروتشياني pic.twitter.com/UmOUFi37s8
— The Palestinian Archive الأرشيف الفلسطيني (@palestinian_the) September 16, 2022
واصلت فاطمة الخطيب التقدم بين أسراب الجثث حتى بيت شقيقتها، وهو الأول في المخيم، الذي تحول فيما بعد إلى مقبرة جماعية، دفن فيها جميع شهداء المجزرة وبُني عليه نصب تذكاري.
كانت فاجعة فاطمة الأكبر في بيت شقيقتها ذيبة أحمد الخطيب، حيث وجدتها مع أبنائها التسعة وزوجها جثثا، وقد قُتل كل منهم بطريقة مختلفة.
كانت الابنة ميساء شاهدة على عويل أمها بالقرب من جثث عائلتها، وقالت “بعد هذا المشهد، اعتقدنا أن والدتي أصابها الجنون، لم تستوعب ما رأته وبدأت بالصراخ بشكل هستيري”.
قتل جماعي
لم تتوقف مشاهد الموت عند بيت الخالة، ففي كل زقاق في المخيم كانت الجثث فرادى وجماعات. ولعل أكثر ما علق بذهن ميساء الخطيب مشهد رأس متفجر لطفلة “كانت ترتدي تنورة باللون البني، وبجانبها عدد من الجثث المكدسة فوق بعضها. وكأنهم قتلوا بشكل جماعي”.
وخلال تنقلها بين أزقة المخيم، سمعت الخطيب من بعض الناجين عن عدد كبير من الشبان من الجنسين جُمعوا في شاحنات ونقلوا لجهة غير معلومة، ولم يعرف مصيرهم حتى الآن، كما تقول.
كانت المجزرة، التي قتل خلالها نحو 3500 غالبيتهم من الفلسطينيين، متوقعة بعد خروج المقاومة الفلسطينية وقوى منظمة التحرير من لبنان عام 1982، رغم الضمانات التي قُدمت لقيادة المنظمة بعدم المساس بالفلسطينيين في المخيمات.
تقول الخطيب “أصبحنا بلا ظهر ولا حماية”، مستذكرة ذلك الشعور بالقهر والخوف وهي تركض باكية خلف آخر شاحنه نقلت المقاتلين الفلسطينيين خارج بيروت. ولم يمض الكثير حتى تحولت المخاوف إلى حقيقة، في واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الفلسطيني.
وتضيف ميساء “كنا نتوقع استفراد إسرائيل والقوات الموالية لها بالفلسطينيين في المخيمات، ولكن ليس لهذا الحد من القتل والبشاعة”.
لليوم، لا تزال ميساء التي عادت إلى فلسطين عام 1995 واستقرت بمدينة رام الله، تذكر مشاهد المجزرة وكأنها وقعت قبل ساعات وليس 40 عاما. وهي التي خلدت ذكرى جدتها وخالتها وأبناء وزوج خالتها الشهداء بزرع أشجار حملت أسماءهم في مزرعتها. فهذه المشاهد كما تقول: “حُفرت في عظم من عايشها، لا في ذاكرته”.
مجازر متلاحقة
على عكس ميساء التي فضلت القليل من الحديث والكثير من الصمت بكبرياء ظاهر في الذكرى السنوية الأربعين للمجزرة، اختارت الفلسطينية رحاب كنعان زيارة نصب الجندي المجهول وسط مدينة غزة لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، كما شاركت في جولة بعدة مدارس جنوب القطاع، لرواية ذكريات “المذبحة” التي فقدت فيها عددا من أفراد عائلتها.
وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، لتوسع جرح رحاب كنعان، بعد أن فقدت العشرات من عائلتها في مجزرة تل الزعتر عام 1976. وهكذا تحولت حياتها منذ 40 عاما إلى إنسانة تعيش بين صور أقاربها الشهداء، حيث حولت منزلها بحي تل الهوا بمدينة غزة إلى بناء أشبه بمتحف يجدد وجوههم في ذاكرتها يوميا.
تقول رحاب الملقبة بـ”خنساء فلسطين”، للجزيرة نت، إنها فقدت 51 فردا من عائلتها في مجزرتي “تل الزعتر” و”صبرا وشاتيلا”، بينهم ابنها ماهر ووالداها و5 أشقاء و3 شقيقات.
تقول بمرارة “كيف ننسى، وشلال الدم الفلسطيني لا يزال ينزف؟ ومن ارتكب المجزرة في لبنان لا يزال يرتكبها كل يوم في غزة والضفة.. ودماؤنا التي هانت على العالم لـ3 أيام متتالية في صبرا وشاتيلا، لا تزال تهون عليه حتى اليوم”.
لقد أمضيت أربع ساعات في شاتيلا، وما يزال في ذاكرتي أربعون جثة تقريبا، وهي كلها- ألح على أنها كلها- قد تعرضت للتعذيب غالبا، وسط نشوة المُعذِّبين وأغانيهم وضحكاتهم ووسط رائحة البارود.
*الكاتب الفرنسي جان جينيه – من أوائل الذين دخلوا مخيم شاتيلا بعد مجزرة صبرا وشاتيلا عام ١٩٨٢ pic.twitter.com/iH8ZTK6ph8
— Bashar Hamdan (@Bashar_Hamdan) September 17, 2022
الابن والابنة
وُلدت رحاب عام 1954، لأسرة لاجئة من قضاء صفد أقامت في مخيمات لبنان بعد تهجيرها في النكبة عام 1948. وفي سن مبكرة، تزوجت من قريب لها وأنجبت ماهر وميمنة.
أما الابن، فاستشهد في مجزرة “صبرا وشاتيلا” وكان وقتها في الـ12 من عمره، وأما الابنة، فاعتقدت الأم أنها لاقت مصير شقيقها، وكان وقع المفاجأة عليها عظيما عندما أدركت لاحقا أنها من بين “القلة الناجية”.
علمت رحاب باستشهاد ماهر بالصدفة عندما قرأت اسمه في مجلة “فلسطين الثورة” من بين شهداء المجزرة، وكانت آنذاك قد انتقلت برفقة زوجها العقيد يوسف كنعان إلى تونس، وقد مضى على وقوع المجزرة 4 أعوام.
وتقول رحاب “كان وقع الخبر عليّ صاعقا، فقد تركت ماهر بعمر 5 سنوات مع شقيقته ميمنة برفقة والدهما، بعد انفصالنا”.
وبعد تلقيها خبر استشهاد ماهر، ظلت رحاب تترقب خبرا مماثلا عن استشهاد ابنتها، حتى جاءها اتصال من لبنان بأن “ميمنة على قيد الحياة”.
كانت رحاب قد عادت إلى غزة بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، لتطأ قدماها وطنها لأول مرة بعد عقود من اللجوء والشتات. وقالت “بعد 24 عاما من المجزرة، احتضنت ابنتي ميمنة لأول مرة، وتمكنت من زيارتها في لبنان قبل 7 أعوام، ومنذ ذلك الحين لا أستطيع رؤيتها”.
لن ننسى
لم تجرح المجازر ذاكرة رحاب وتدمي قلبها بفقدان أحبتها وحسب، بل كان لها نصيب منها بقذيفة أصابت ساقها، ولا تزال آثارها باقية. وهي التي كرست حياتها لنظم الشعر وتوثيق المجازر الفلسطينية في مؤلفات مكتوبة.
ولها مجموعة كبيرة من المؤلفات، منها “تل الزعتر”، و”كي لا ننسى”، و”مملكة التنك”، و”جمهورية الثوار”، و”شاهد على التاريخ”. وهي وجه تألفه شوارع غزة، فلا تنقطع عن المشاركة في فعاليات إحياء المناسبات الوطنية.
ولا تؤمن رحاب بعدالة القضاء الدولي في ملاحقة إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، وتقول “سيأتي اليوم الذي يدفع فيه كل مجرم ارتكب مجزرة بحق الشعب الفلسطيني الثمن، وإلى ذلك الحين لن نغفر ولن ننسى، وستبقى دماؤنا وصرخات أطفالنا تطاردهم”.