ضحايا “قارب الموت” في طرطوس.. هل أصبح شمال لبنان منطلقا للهجرة غير النظامية نحو أوروبا؟
شمال لبنان- وسط عشرات النسوة المتّشحات بالسواد، تنوح اللبنانية أم مصطفى مستو المفجوعة بموت ابنها وأحفادها الثلاثة بغرق قارب كانوا على متنه قبالة سواحل طرطوس السورية بعد انطلاقه من شاطئ المنية (شمالي لبنان) بينما نجت زوجته وولدها من الغرق.
تحني الأم الثكلى رأسها وتشد على قدميها مرددة عبارة “ما عم صدق، ردّوا لي ابني”. تطبطب شقيقتاها وجاراتها على كتفها، لكنها تصرخ للجزيرة نت “قتلوه مع أولاده، هذا البلد (تقصد لبنان) هو من قتله”.
شهادات حية
هنا في حي “باب الرمل” بطرابلس، كان مصطفى مستو (34 عاما) وهو سائق أجرة، أحد اليائسين من محافظة الشمال التي أضحت تنام وتصحو على أنباء إبحار قوارب الهجرة غير النظامية من سواحلها نحو أوروبا، وتحديدا إيطاليا، بوتيرة شبه يومية، وتضم لبنانيين وسوريين وفلسطينيين.
باع مستو كل ممتلكاته من سيارة وأثاث منزل وذهب لتسديد ما لا يقل عن 12 ألف دولار لأحد المهربين، في مجازفة بحرية يتقدم فيها خطر الموت، بغية الوصول “إلى بر الخلاص الأوروبي من جحيم لبنان” بحسب ما كان يردد أمام والدته التي كانت ترفض سفره بهذه الطريقة، إلى أن غافلها بالهرب سرًا مع عائلته.
وقع هذا السائق الطامح في مصيدة بعض المهربين الذين احتالوا عليه بالمال، وهذه المرة الرابعة التي يحاول فيها الهجرة بعدما غرق في الديون التي جعلته عاجزًا عن شراء أبسط حاجيات أبنائه، حيث يغرق بلده في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية بالعالم.
وعلى بُعد كيلومترات عدة، تتكثف علامات اليأس في “باب التبانة” وهي واحدة من أكثر مناطق لبنان ظلما وفقرا ونكبات، حيث غرق خمسة من عائلة “التلاوي”.
تمكن ابن هذه العائلة، ويدعى وسام، من النجاة ونقل إلى مستشفى الباسل بطرطوس، في حين لم يعثر على زوجته وولديه، بينما كانت ابنتاه الصغيرتان ماي ومايا أول جثمانين نقلا إلى لبنان، وجرى تشييعهما ودفنهما بمسقط رأسهما في عكار، وفق ما يفيد عبد الله شقيق الضحية للجزيرة نت.
ومن داخل منزله المتصدع ضمن عشوائيات الأبنية المتلاصقة، وبعضها مهدد بالانهيار، يقول عبد الله وهو يختنق حزنًا على أولاد شقيقه، إن وسام (عامل نظافة) سبق وأبلغ عائلته بحسم خياره للهجرة بحرًا وبيع ممتلكاته لهذه الغاية “لكننا لم نصدق أنه سيتجرأ على المخاطرة، ولم نأخذ كلامه بجدٍ، ونشعر بالذنب والقهر عليه، إذ مرت أيام كان يبكي فيها لعدم قدرته على تأمين قوت أولاده وتعليمهم بسبب الغلاء، بعدما تدهورت قيمة راتبه لنحو 25 دولارا شهريا”.
أما في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين -وهو يطل على الحدود البحرية الساحلية التي تفصل لبنان شمالًا عند نقطة العريضة في عكار عن سوريا- فتتجلى فصول الكارثة الإنسانية، وسط أنباء عن غرق وفقدان ما لا يقل عن 20 فلسطينيا من أبناء المخيم ونجاة 4 آخرين.
وهناك، تقول الناشطة الفلسطينية خنساء غنومة للجزيرة نت إنه تم رصد لائحة طويلة بأسماء رجال وأطفال ونساء لقوا حتفهم، وإحدى العائلات غرقت بأكملها مثل آل حسن (الأب والأم و4 أطفال).
وتوضح غنومة أن الوضع داخل المخيم بلغ مستوى خطيرا من التدهور المعيشي، وأن عشرات الشبان ينسقون مع كبار المهربين لتسهيل عمليات هجرة العائلات غير النظامية نحو أوروبا “لأنهم عالقون بين جحيم لبنان وفقدان حقهم بالعودة إلى فلسطين”. ويسدد فلسطينيو المخيم للمهربين، وفقها، مبالغ ضخمة قياسًا لحالة فقرهم، إذ تتراوح كلفة كل فرد بين 3 آلاف و5 آلاف دولار “يبيعون ممتلكاتهم ويستدينون لتوفيرها”.
عكار منصة الهروب
ويأتي غرق هذا القارب في سياق موجة غير مسبوقة للهجرة غير النظامية من لبنان، وتحديدًا من الساحل الشمالي الذي يمتد من “المدفون” وصولا إلى آخر نقطة بحرية حدودية مع سوريا في العريضة، رغم وجود أجهزة أمنية ورادارات للقوات البحرية التابعة للجيش اللبناني الذي يعلن بين وقت وآخر عن إحباط عمليات هجرة غير نظامية.
وتفيد المعلومات أن “ببنين” شهدت الخميس مداهمات عسكرية بحثًا عن متورطين بتهريب هذا القارب الغارق. وتعد كبرى بلدات الساحل العكاري التي تشتهر بالصيد والصيادين و”خبراء” البحر، وتعيش فصول حركة مكثفة للمهاجرين وتنظيم عمليات التهريب في غياهب الليل.
ومن جزيرة أرواد السورية التي قذفت الأمواج القارب قبالتها، يستورد منها مهربون لبنانيون قوارب للهجرة بعد صناعتها هناك، وفق معطيات الجزيرة نت، وتختلف تكاليفها وفق حجمها وسعتها، لكنها لا تقل عن 30 ألف دولار.
وفي جولة للجزيرة نت، قبل أيام، على طول الساحل العكاري وصولا إلى العريضة، رصدت بعض الأماكن “الرملية” التي تنطلق منها القوارب خلف منازل مهجورة. وهناك، يتحدث أحد خبراء المنطقة (يتحفظ عن ذكر اسمه) أن رحلات الهجرة غير النظامية أضحت مكشوفة لدرجة “يمكن أن تسأل أي أحد بالمنطقة ليدل على سمسار أو مهرب ينشط بهذا المجال، وهم يجنون الأرباح بملايين الدولارات”.
والقاعدة الأساسية لهذه الرحلات أن تضم سوريين بالدرجة الأولى ومع فلسطينيين ولو قلة، إلى جانب اللبنانيين، حتى يتمكنوا من دخول الدول الأوروبية التي لا يعترف بعضها بحقهم في اللجوء على غرار السوريين والفلسطينيين.
لكن المفارقة أن معظم السوريين الذين يهاجرون من شمالي لبنان، وفق معلومات موثوقة، ليسوا من اللاجئين، بل يأتون من الداخل السوري، وأغلبهم من مناطق الجنوب المحاذية للحدود اللبنانية مثل درعا، ومن ريف دمشق وحمص. ويدخلون خلسة عبر المعابر البرية غير الرسمية، محملين بالمال ومستلزمات الرحلات، ويسددون على كل شخص مبالغ تتراوح بين 5 آلاف و7 آلاف دولار.
ويرى كثير من السوريين طالبي الهجرة أن الانطلاق من شمالي لبنان نحو أوروبا أسهل، وأقل كلفة، من الهجرة عبر تركيا التي تفرض إجراءات مشددة بحق المهاجرين.
الخوف من القادم
ولم تظهر بعد ملابسات غرق القارب، بينما يتناقل ذوو الناجين روايات عدة منها أن أمواج البحر والرياح التي تشتد في سبتمبر/أيلول هي من أغرقته ودفعته نحو طرطوس، كما لم تحسم مسألة وجهته الأوروبية. وترجح التقديرات أنه كان يحمل بين 100 و150 راكبا على الأقل، بينما جرى العثور على نحو 87 جثة، وإنقاذ نحو 20 ناجيا، والبحث جارٍ عن مفقودين آخرين من قبل سلطات النظام السوري.
ومساء الخميس، تسلم الصليب الأحمر اللبناني من الهلال الأحمر السوري 9 جثامين للبنانيين جرى التعرف عليهم (7 بالغين وطفلتين) وفلسطينيين اثنين.
وتوجه بعض اللبنانيين والفلسطينيين إلى طرطوس للتعرف على الجثامين لأن بعضهم بلا أوراق ثبوتية.
وتعد حصيلة ضحايا هذا القارب الأعلى منذ أن نشطت حركة المهاجرين غير النظاميين في لبنان، واشتدت بعد أزمة 2019 لتبلغ ذروتها منذ شهرين عام 2022. وأحيت مشاهد الضحايا والصور والفيديوهات من طرطوس جرحا لم يندمل في طرابلس بعد غرق قارب في 23 أبريل/نيسان الماضي قبالة شاطئها، وفقدان ما لا يقل عن 33 جثة بالبحر داخل المركب غرق، واستقر بعمق يتجاوز 450 مترا وقد تعذر انتشاله رغم الاستعانة بغواصة خاصة قبل أسابيع لهذه الغاية.
مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، تمكنت سفينة مصرية من إنقاذ ركاب قارب هجرة غير نظامية انطلق من عكار متوجها نحو إيطاليا، عندما تعطل المركب نتيجة عطل في المحرك بالمياه الإقليمية بين اليونان ومالطا، وكان ينقل 60 مهاجرا لبنانيا وسوريا وفلسطينيا (معظمهم من مخيم نهر البارد) جرى إنقاذهم جميعا بعد مواجهة خطيرة مع الموت. وحاله كعشرات المراكب التي أضحت تنطلق من شمالي لبنان وتتوه بالمتوسط، فينتظر ركابها الإنقاذ أو يموتون غرقا، أو يدخلون أوروبا بصفة لاجئين.