شبتاي تسفي.. اليهودي المخادع الذي حارب الدولة العثمانية وأسهم أتباعه في إسقاطها
تشرّب شبتاي تسفي اليهودية منذ ولادته، وربّته أمه على عينها وهي ترقب فيه حاخاما كبيرا، غير أن طموحه جمح به حتى ادعى أنه المسيح المخلص الذي سيعيد اليهود إلى “مملكة الرب” في فلسطين بعد إسقاط الدولة العثمانية، مما جلب عليه عداوة الأحبار وسجن السلطان.
ولد شبتاي تسفي في مدينة إزمير التركية عام 1626 لأبوين يهوديين هاجرا من إسبانيا، إثر الاضطهاد الديني الذي تعرض له اليهود هناك.
وكانت إزمير -الواقعة غربي تركيا على البحر الأبيض المتوسط- مركزا اقتصاديا عالميا ينسِل إليها التجار من كل حدب، وتفد إليها الأعراق من كل صوب، فكونت من ذلك فسيفساء زاخرة بالعرقيات والديانات، ومنها اليهودية التي كانت إحدى أكبر وأهم الطوائف إبان الدولة العثمانية.
في تلك الحقبة من الزمن، كان اليهود يعانون مما تعرضوا له في أنحاء أوروبا من اضطهاد ديني على يد المسيحية منذ العصور الوسطى وحتى قيام محاكم التفتيش، التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا، مما جعلهم يعيشون في عنت وعذاب، حتى راجت في أوساطهم دعوى المسيح المنتظر الذي سيخلصهم من الهوان والإبادة، وتنبأ بعض كهنتهم بظهوره عام 1648 على وجه التحديد.
تبلورت العديد من الأفكار اليهودية “الباطنية” آنذاك، وانتشرت شائعات في المجتمعات اليهودية عن جيش يتأسس في شبه الجزيرة العربية من اليهود، وينطلق للسيطرة على فلسطين.
وفي تلك الأجواء، ولد وترعرع شبتاي تسفي أو -سبتاي كما في بعض المراجع- الذي كان شغوفا منذ حداثة سنه بمطالعة الكتب الدينية، ذكيا ونبيها، واعيا ومتأثرا بالأحداث التي مر بها أهله وأبناء ديانته من اضطهاد وهجرة على مر العصور.
قرأ تسفي التوراة والتلمود واستوعبهما، كما برع في التفسير الإشاري، أي رموز وإشارات مضامين المعاني للكلمات، فكان يعطي فيها آراء وأقوالا دعت إلى إعجاب المحيطين به وتزايد الإقبال عليه وتقديره.
المسيح المنتظر
بعد أن درس تسفي التوراة وأصبح حاخاما كما أرادت له أمه، استغرق في دراسة كتابات ما يعرف بالقبّالة (معتقدات وتعاليم روحانية فلسفية تعتمد التفسير الباطني للتوراة)، وساعدته شخصيته القوية على جذب عدد من التلاميذ حوله حتى ادعى أنه المسيح المنتظر وهو في ريعان شبابه بعد أن بلغ 22 ربيعا.
أعلن تسفي بطلان النواميس والشريعة المكتوبة والشفوية اليهودية، وطلب أن تزف إليه التوراة باعتباره متزوجا منها فقط، لأنها “عروس الإله” كما ذكر.
وكما كان مثيرا بزواجه من التوراة، كان كذلك في زواجه الحقيقي، فقد تعرّف على فتاة بولندية اسمها سارة سيئة السمعة، وكانت تدّعي أن الإله أعطاها رخصة لمعاشرة من تريده من الرجال، إلى أن يظهر “المسيح” ويتزوجها، وحينما سمع دعواها زعم أنه أوحي إليه بالزواج منها، وجازت حيلته على كثير من أتباعه البسطاء.
وأثارت دعوته أنه “المسيح المنتظر” الحاخامات في مسقط رأسه سميرنا، كما كانت تسمى قديما، فحاربوه واتهموه بالضلالة وجردوه من رتَبه الدينية، فولى وجهه شطر سالونيك (مدينة تقع في اليونان) التي كانت تحتضن أيضا جالية يهودية كبيرة وكانت مركزا لرموز القبالة.
وفي سالونيك، استمر تسفي في دعوته وتكوين أتباع له بين أبناء طائفته الذين كانت لهم شوكة اقتصادية هناك، ومرة أخرى حاربه الأحبار، فشد رحاله إلى إسطنبول، وقيل إنه التقى هناك بشخصية يهودية قوية من أتباع القبالة أظهر له وثيقة مزيفة تؤكد له أنه المسيح الذي ينتظره اليهود ليخلصهم من شتاتهم ويعيدهم إلى “أرض الرب” في فلسطين.
لم يكن مصيره في إسطنبول أحسن منه في سميرنا وسالونيك، فيمّم قاصدا قاهرة المعز، وهناك وجد له أتباعا خاصة من بعض تجار اليهود الذين آمنوا به وسخوا عليه بأموالهم، ثم ارتحل مزهوا بالدعم الذي حظي به إلى فلسطين، حيث آمن به أحد أحبارها ويدعى ناثان وبشر به مخلصا وشيكا لليهود.
دخل تسفي القدس عام 1665، وأعلن أنه المتصرف الوحيد في مصير العالم كله، ورغم معارضة حاخامات اليهود في القدس له، فإنه أعلن -عام 1666- عزمه القضاء على الدولة العثمانية من دون حرب، وإقامة دولة إسرائيل بعد أن يسيطر على إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية.
الامتداد الأوروبي
أخذت حركة تسفي زخما جماهيريا امتد إلى دول أوروبا وشمال أفريقيا، وزاد حماس يهود أوروبا من هذا الإعلان، وباع نفر منهم كلّ ما يملك استعدادا للسفر إلى فلسطين، بل وضغطوا على كبار تجّار اليهود فاستأجروا سفنا لتنقل فقراءهم من أوروبا إلى فلسطين، واعتقد البعض الآخر أنّهم سيذهبون إلى القدس يحملهم السحاب.
كانت الدولة العثمانية في تلك الفترة تعيش واحدة من أسوأ مراحلها؛ فقد اضطربت خزائنها وقويت شوكة جنودها الإنكشاريين وتدخلوا في تسيير شؤون الإمبراطورية وثاروا على السلطان العثماني إبراهيم خان الأول وخلعوه، ونصبوا ابنه محمد الرابع على عرش السلطة وهو في السابعة من عمره.
تولت والدة محمد الرابع خديجة تورهان مقاليد السلطنة حتى شب ابنها واستوى له الأمر، وعندما أحس بخطورة تسفي وعزمه القضاء على الدولة العثمانية وإقامة دولة إسرائيل، قبض عليه وأودعه السجن، تمهيدا لمحاكمته.
تحوّل السجن إلى قصر لتسفي، فقد كان يزوره أتباعه من أصقاع العالم، واستغل ذلك الوضع فأعلن أعيادا وطقوسا جديدة لليهود، وألغى أخرى كانت في صميم تقاليدهم.
وقد جاءه عام 1666 أكبر حاخام بولندي (حيث كانت بولندا وعموم شرق أوروبا موطنا لليهود) في السجن وناقشه في معتقداته طوال 3 أيام، لكنه تيقن بعد ذلك أن تسفي ليس “المسيح”، بل وأوعز إلى السلطات العثمانية بأنه يحرض على الفتنة، وهنا أقيمت له محاكمة في حضرة السلطان.
كان تسفي لا يُتقن اللغة التركية، وقد قيل إن طبيب السلطان، الذي كان يهوديا سابقا، كان المترجم بينهما، وحينما رأى أن المحاكمة تسير باتجاه إدانة شبتاي تسفي، ومن ثَمّ قتله، اقترح (المترجم) عليه أن يعلن إسلامه، فأسلم “المسيح” ونجا بنفسه من المهلكة، وتسمى باسم محمد عزيز أفندي.
تراجع بعض أتباعه بعد إسلامه إلا أن عددا منهم ظل وفيا له، مبررا إسلامه بأنه مرحلة من مراحل تخليص اليهود، فأسلموا معه، وتقدم بعد ذلك محمد عزيزي أفندي بطلب إلى المفتي للسماح له بدعوة اليهود إلى الإسلام، وكانت هذه خطوته الأولى ليستأنف دعوته السابقة، وجاءه اليهود من كل مكان معلنين إسلامهم مخفين يهوديتهم حتى تكونت جماعة منهم أصبحوا يعرفون بالدونمة أي “العائدون عن دينهم”.
انصرف عزيز أفندي إلى تنظيم ورسم معالم مذهبه الجديد، وكتب ذلك في وثائق نصت في بعض موادها على أن أتباعه يجب أن يطبقوا عادات وشعائر الأتراك المسلمين بدقة لصرف الأنظار عنهم، كما حرم عليهم التزاوج بينهم وبين المسلمين.
النفي إلى ألبانيا
علمت السلطات العثمانية أن تسفي يجمع أنصاره على طقوس وعقائد خاصة، وأن إسلامه إنما كان تقية، فقُبِض عليه مع بعض أتباعه ونفوا إلى ألبانيا وبقي هناك 5 سنوات حتى مات عام 1675.
استمر أتباع شبتاي في طقوسهم ومعتقداتهم، ورغم انقساماتهم فإنهم بقوا أوفياء لفكرة تخليص اليهود وإقامة وطن لهم في فلسطين التي تبناها شبتاي قبل تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة، بنحو 3 قرون.
عمل يهود الدونمة من خلال جميعة الاتحاد والترقي التي تأسست أواخر القرن الـ19 وغدت القوة الدافعة في أوساط ما سميت “تركيا الفتاة”، التي برزت حركة إصلاح سياسي معارضة للحكم العثماني في الأستانة.
كانت الجمعية خليطا من أجناس وأديان مختلفة، إلا أن الكثرة الغالبة كانت من الأتراك، وكان العسكريون هم أصحاب النفوذ فيها. وقد تسنى لجمعية الاتحاد والترقي انتزاع القيادة شيئا فشيئا، وساعدها على ذلك تتالي الأحداث الخطيرة في الدولة العثمانية بين عامي 1905 و1908.
وفي عام 1907، كانت الجمعية قد أعادت تنظيم صفوفها وبدأت من فروعها في سالونيك -معقل يهود الدونمة- تستعد لإعلان ثورة عسكرية على السلطان عبد الحميد الثاني.
في عام 1908، أُجبر السلطان على إعادة دستور 1876 وأجريت الانتخابات لأول مجلس نواب (المبعوثان)، ورغم أن الأكثرية البرلمانية كانت للاتحاديين، فلم يستلموا السلطة، إلى أن حاول السلطان عبد الحميد في العام التالي القيام بثورة مضادة للتخلص من الجمعية التي كان يرى أنها تنفذ أجندة أوروبية لإسقاط الحكم العثماني.
عندئذ، زحف الجيش من سالونيك إلى الأستانة، وأعاد إلى جمعية الاتحاد والترقي نفوذها وخلع السلطان، ونفاه إلى سالونيك، وكان ليهود الدونمة دور فعال في الإعداد لحركة سالونيك، بل إن أحد أعضاء الوفد الذي أبلغ السلطان عبد الحميد قرار خلعه يهودي يدعى قره صو نفسه، كما سجن عبد الحميد في منزل أحد يهود سالونيك الأغنياء.
عمل يهود الدونمة -حسب المصادر التاريخية- على نشر الإلحاد والأفكار الغربية وهدم القيم الإسلامية، كما أسهموا في تأسيس المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية باستخدام شعارات الحرية ومقاومة الاستبداد ونشر الديمقراطية، واستوزر بعضهم في حكومات الاتحاد والترقي حتى وصلوا إلى منصب “الصدر الأعظم” الذي كان مثل رئاسة الوزراء في الوقت الحالي، وعملوا على تفريغ السلطنة العثمانية من مضامينها الإسلامية، وينسب لهم دور كبير في المساهمة في تفكك الدولة العثمانية وإسقاطها في الربع الأول من القرن العشرين.