شهيد ينقذ شهيدا.. آخر قصص الفداء في مخيم جنين
جنين – لم يختلف سيناريو قتل الفلسطينيَين جواد بواقنة وأدهم جبارين فجر اليوم الخميس كثيرا عما فعله جنود الاحتلال الإسرائيلي في عشرات حوادث القتل بمخيم جنين شمال الضفة الغربية خلال العامين الأخيرين؛ إذ حاصر الاحتلال المخيم بالقوات الخاصة والآليات العسكرية، وقتل أو اعتقل من أراد، ثم انسحب قبل حلول الصباح. والمختلف هذه المرة، كان حزن المخيم على رحيل المعلم وطالبه المقاوم، فـ”كل المخيم درس عند الأستاذ جواد” كما يقول أهالي المخيم.
في الثانية والنصف فجرا، توغلت عشرات الآليات العسكرية المدعومة بالوحدات الخاصة في مخيم جنين، لتندلع مباشرة اشتباكات واسعة مع المقاومين، وخاصة في حارتي الدمج والحواشين. وتوالت الأخبار تباعا عن وقوع أكثر من 10 إصابات، بعضها خطيرة.
وعلى وقع الرصاص الكثيف استيقظ أهالي مخيم جنين، ومنهم عائلة المعلم جواد فريد بواقنة (58 عاما) الذي سارع لفتح باب منزله محاولا إنقاذ شاب أصيب بجروح خطيرة بعد أن رآه مضرجا بدمائه. لكن المعلم تلقى رصاصات إسرائيلية عديدة، فاستشهد دون أن يعلم أن الشاب المضرج بدمه عند باب بيته هو أدهم جبارين (28 عاما) الذي التقاه مساءً.
محاولات إنقاذ تحت الرصاص
تروي سجى بواقنة التي كانت شاهدة على قتل والدها جواد، أن أباها سمع أصوات الرصاص فسارع إلى فتح المنزل بعد أن لاحظ شابا مصابا قرب الباب. وتضيف الابنة المكلومة “نزل بلباس النوم وحافي القدمين لإنقاذ الجريح، وما إن فتح الباب حتى أمطره القناصة بأربع رصاصات قاتلة”.
وعندها، تضيف سجى، “تيقّنا أن المصاب قد استشهد، وعندما حاولت سيارات الإسعاف الاقتراب لإنقاذه وأبي، أطلق الجنود النار عليها، لكن أحد المسعفين استطاع الدخول لمنزلنا، وتعاون مع شقيقي لسحب أبي للداخل تحت وابل من رصاص الاحتلال أيضا.. كان أبي قد نزف كثيرا، وعرفنا لحظتها أنه استشهد أيضا”.
تلقى جواد بواقنة رصاصات قاتلة في منطقة البطن والصدر أطلقها جنود الاحتلال من مسافة قريبة، على الرغم من أنه كان مدنيا “ولم يكن مسلحا”، وكل ذنبه أنه حاول إنقاذ شاب مضرج بدمه، فصار مثله شهيدا، كما تقول ابنته.
مكافح ومحبوب
وعن أبيها، تقول سجى بواقنة إنه وُلد لعائلة من قرية الفريديس المهجّرة خلال النكبة، وهو الوحيد من الذكور بين 3 شقيقات، وقد نشأ داخل المخيم وكافح ليعيل أسرته ويعلّم شقيقاته، فقد توفي والده وهو طفل صغير.
واستطاع “أبو فريد”، كما يُكنّى وهو والد لستة أبناء (2 ذكور و4 إناث)، أن يكمل تعليمه الثانوي والجامعي، ويحصل على إجازة جامعية في التربية الرياضية، وعمل بها مدرسا في مدرستي المخيم لأكثر من 30 عاما.
ورغم ضيق الحال وبؤس الحياة، فإن الأستاذ جواد رفض مغادرة المخيم، إذ كان يحبه جدا ويخلص ويُضحي لأجله، واستطاع أن يُعلم أبناءه الستة ويلحقهم “بأفضل الجامعات”، كما تقول ابنته.
واجتماعيا، عُرف جواد بواقنة بنشاطه الكبير داخل المخيم، وكان لا يتأخر عن أي نشاط لخدمة الأهالي، وخاصة في إعداد أنشطة لا منهجية للأطفال والشبان؛ حيث نظّم العديد من النوادي الصيفية وأسس الفرق الكشفية، وفي مدرسته يعرف الأستاذ جواد بتميزه بين زملائه وحبّ الطلبة له وبذله كل جهد لدعمهم.
وقتلت إسرائيل خلال العام 2022 معلميْن فلسطينييْن و48 طالبا في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى معلم و3 طلبة منذ بداية العام الجاري.
لقاء غريب.. ووصية
وعن ساعاته الأخيرة، تقول ابنته سجى إن والدها اعتاد صلاة المغرب بمسجد المخيم الكبير، وعند عودته مساءً إلى البيت أخبرهم أنه التقى الشاب أدهم جبارين الذي نظر إليه “بنظرات غريبة”، فأخبرهم وهو مندهش “ليس بيني وبين أدهم أي شيء، فلماذا نظر إليّ هكذا؟”، ولم تمضِ بضع ساعات حتى استشهد أدهم أمام عينه وبين يديه، ثم لحقه شهيدا.
وخلال السهرة في الأمسية الأخيرة، قال الأب لأبنائه “هذه الليلة أسعد ليلة في حياتي” لأنه عقد النية على أداء العمرة خلال الشهر القادم. “أما أنا فأوصاني قبل دقيقة من استشهاده بالمواظبة على الصلاة”، وقال لابنته وهو بطريقه لإنقاذ الجريح “إذا كنت خائفة ارجعي”.
رؤيا المقاوم
أما أدهم جبارين فقد كان من أبرز قادة “كتيبة جنين” المقاومة. وقد لاحقه الاحتلال وحاصره أكثر من مرة وفي أكثر من نقطة بالمخيم محاولا اغتياله، وفق رواية الأهالي، إلى أن تمكن من استهدافه فجر اليوم الخميس بعد اشتباك عنيف ومن مسافة صفر.
وأدهم جبارين أو “أبو الباسم”، كما يُعرف، اعتقل في سجون الاحتلال عدة مرات آخرها عام 2017 حيث قضى نحو 3 سنوات بسجون الاحتلال، وانضم بعدها لكتيبة جنين كأحد أبرز مقاتليها وأصبح مطاردا من قبل الاحتلال.
وعرف عنه اشتباكه مع الاحتلال داخل المخيم وخارجه، “وآخرها كانت مشاركته في التصدي لاقتحام المستوطنين وجيش الاحتلال لقبر يوسف شرقي مدينة نابلس”، وفق ما تداولته صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي مقربة من المقاومة بجنين.
وعند وداعه في منزله ظهر اليوم الخميس، كانت صورة لابن عمه يزن جبارين لا تزال ثابتة على جدار البيت، وهو الذي استشهد قبل 9 سنوات في اشتباك مع الاحتلال أيضا. في حين لا يزال جثمان ابن خالته الطفل يوسف صبح، الذي استشهد قبل عامين تقريبا، محتجزا في ثلاجات الاحتلال.
ويقول الصحفي مجاهد السعدي من مخيم جنين للجزيرة نت إن “أبو الباسم” قصَّ يوم أمس الأربعاء على رفاقه المقاومين رؤياه الأخيرة، إذ “رأى نفسه في منامه مرتديا زيا أبيض ومحمولا على الأكتاف وفوقه تطوف حمامات بيضاء”.
صخب الرحيل
نعت صفحات مخيم جنين الشهيديْن بواقنة وجبارين ووصفتهما بالبطلين، وكذلك نعت مديرية التربية والتعليم في مدينة جنين الشهيد “المربي الفاضل” المعلم جواد بواقنة.
في حين كتب أحد أصدقائه “كان لحياتك صخب ولرحيلك صخب، عرفناك بحضورك التربوي ومشاركتك المجتمعية وأصالتك، واليوم ترتقي شهيدا في سبيل الوطن وجنين والمخيم”.