واجهة تكنولوجية براقة تخفي تخلفا إداريا صادما.. صحفية فرنسية: أهلا بك في أميركا!
هذه هي دولة أبولو 11 وناسا ووكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) ووول ستريت، هذه هي القوة العالمية الأولى وشرطي الكوكب، ما زالت عالقة في عصر ما قبل التاريخ تتعامل بالبريد الورقي وصناديق البريد العتيقة.
إن بريق التقنيات المتطورة في الولايات المتحدة يخفي عن الأنظار عدم حداثة صادما، إنها واجهة طليعية خلفها كل شيء منحرف بعض الشيء، إن من الغريب والمزعج والمؤثر أن نكتشف أن الولايات المتحدة عملاق بأرجل من طين.
بهاتين الفقرتين لخصت مراسلة مجلة “لوبس” (L’Obs) الفرنسية في واشنطن سارة هاليفا لوغران صورة الولايات المتحدة بعد أن قدمت إليها لأول مرة، وذلك في عمود شهري تروي فيه آلاف الأوضاع غير المناسبة والنكات والحيرة التي تواجهها امرأة فرنسية تصطدم بأسلوب الحياة والبيروقراطية التي تشكل أحد أعراض بلد غير حديث.
الضرائب
تبدأ الكاتبة بما سمته موسم الضرائب في الولايات المتحدة بين نهاية الشتاء وبداية الربيع، عندما تنتشر الإعلانات والدعوات للإعلان عن الضرائب، حيث يضيع المواطنون في تعقيدات ملء أوراق الضرائب الفدرالية وضرائب الولاية والقروض الطلابية وخيارات الأسهم، التي صمّمت لإتعاب المواطن، باستثناء من يعيشون في ولايتي تكساس وفلوريدا الجمهوريتين اللتين لا تأخذان ضريبة على الدخل أصلا.
وتشير المراسلة إلى أن قليلا من الأميركيين يخاطرون بتقديم تصريحاتهم الخاصة مباشرة، دون المرور بالبرامج المساعدة في الإقرار الضريبي، منبهة إلى أنها بعد 6 أشهر أدركت أن لفرنسا فعلا بيروقراطيتها الأسطورية وحبها للأعمال الورقية غير أن لديها منافسا قويا هو أميركا بجحيمها التنظيمي.
هل فقد هذا البلد رشده؟
تمر المراسلة بنوع من السخرية بالإجراءات التي تسبق السفر إلى الولايات المتحدة، حيث أخضعتها الخدمات القنصلية الأميركية في باريس لاختبار إعداد المغتربين لما ينتظرهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، فقد بقيت 5 أشهر تنتظر الحصول على تأشيرة لعائلتها ولم يكن لديها رقم هاتف يمكنها من مناقشة أمرها وبث شجونها ولا حتى شباك تستطيع الذهاب إليه كي تفتح أمامها أبواب الحلم الأميركي.
قامت القنصلية بإجراء “تحقيق إداري” بسيط معها، طلب منها فيه سرد أرقام جوازات سفرها القديمة وجميع رحلاتها خلال 15 عاما وطريقة تمويلها والمدن التي زارتها، ففهمت أن الولايات المتحدة بلد الجدية، ولكن عندما طُلب منها القيام بالشيء نفسه لطفلها ذي العام الواحد بدأت تشك كما قالت في أميركا، هل هذا البلد عاقل؟
وصلت المراسلة أخيرا إلى أميركا وظنت أنها أصبحت خارج النفق الإداري، ولكنها أدركت بعد أيام أنه لم يعد لديها وجود اجتماعي، إذ نقلتها الرحلة من موظفة فرنسية بعلاوات عائلية إلى مواطنة أميركية يغلق الباب في وجهها أينما ذهبت في انتظار أن يكون لديها رقم ضمان اجتماعي، وهو رقم صغير ولكن له قوة هائلة، فمن دونه لا بطاقة ائتمان ولا حتى كهرباء في المنزل، وللحصول عليه لا بد من ملء كثير من الأوراق والوقوف في طوابير تدوم ساعات، ثم العودة في انتظار أن يصل في زحمة الإعلانات والأوراق التي تغرق صندوقك البريدي.
هرم بونزي العملاق
بعد استخراج البطاقة السحرية -تقول المراسلة- ذهبت إلى مكتب “بنك أوف أميركا” ملوحة بها، للحصول على بطاقة الائتمان الأميركية، غير أنها ليست معادلة لبطاقة فيزا الفرنسية، بل هي شيء لا يمكن أن يبتكره سوى معبد الرأسمالية، حيث يبدأ حسابك من الصفر في بداية الشهر وتسحب منه أموالا لا تملكها، لتعيدها في تاريخ محدد حسب المبلغ الذي أنفقت، وإذا تأخرت لحظة فقد وقعت في الفخ الذي يقع فيه الفقراء، وستدفع فائدة فلكية، وتبدأ العيش على الائتمان، فأنت في بلد عبارة عن هرم بونزي عملاق، حيث يجمع المواطنون بطاقات الائتمان، وكل واحدة يدفع بها للأخرى، حتى لتبلغ بطاقاتهم 54 تقريبا كما لو كانوا في لعبة بوكر.
ولكن هناك أيضا ميزة كسب المال، وهي أنك في كل مرة تدفع فيها ببطاقتك تحصل على نسبة مئوية من إنفاقك، وهو أمر لم تكد المراسلة تفهمه كما قالت بعد الشرح وإعادة الشرح، ولكن هذه المرحلة تتطلب درجة ائتمان تستند إلى سلوك الشخص السابق، ومن ثم كان “علي أن أتصرف كمواطنة نموذجية قبل أن يكون لي الحق في أن أعيش مثل الأميركيين”.
العبودية الجديدة
عندما احتجت لهاتف -تقول سارة هاليفا لوغران- بدأت متاعب إدارية جديدة، و”ها أنا أمام موظف في الولايات المتحدة التي ترسل صواريخ إلى الفضاء، لا يعرف كيفية تشغيل التلفزيون أو الهاتف، وللمرة الخامسة في 3 أيام، يتصل بخدمة العملاء ليطلب منه أن “ينتظر” للحصول بعد نصف ساعة على مستشار يقول له “لا تمكنني مساعدتك” اتصل على الرقم 6 للحصول على فني، ولا يأتي الرد إلا بعد ساعة”، وهكذا يُعامل موظف وكالة الهاتف كعميل عادي، حيث دفعت الرذيلة الرأسمالية إلى حد جعل كل فرد عميلا لشخص آخر.
وختمت المراسلة برسالة نصية ضلّت طريقها إليها، تقول الرسالة “مرحبا كليفورد، لم أرك في الاجتماعات منذ مدة. ترامب يحتاجك، نحن نتوقع أن تجيء غدا. بريتني”، ولم أفهم الأمر إلا بعد أن سألتني صحفية فرنسية: “كيف يظهر اسم كليفورد وير عندي كلما اتصلت بي؟”.
وقد اتصل بي برنامج على الهاتف يقول “تذكير.. ماكسي لديه موعد مع الطبيب البيطري في 12 سبتمبر/أيلول عند الساعة 9:30 صباحا. اكتب نعم للتأكيد”، لأعلم بالبحث على غوغل أن الرسالة في الأصل موجهة قبل 6 أشهر إلى كليفورد وير الذي كان قد مات قبل 6 أشهر وماكسي هو كلبه.