الاحتلال يسرق المياه ويمنع الكهرباء.. كيف يواجه فلسطينيو الأغوار لهيب الحر؟
الأغوار الشمالية- أمام خيمة صغيرة في خربة مكحول في الأغوار الشمالية الفلسطينية، يجلس أطفال يوسف بشارات في دلو من المياه، حيث يلهو الصغار برش الماء على أجساد بعضهم، هربا من أشعة الشمس الحارقة؛ في واحد من أكثر مناطق العالم انخفاضا، مما يجعل الحياة هناك أشبه بالمستحيل.
يخرج يوسف بشارات من خيمته مناديا على أطفاله للدخول إلى الخيمة خشية تعرضهم لضربة شمس، ويقول إن الأطفال غير معتادين على الجلوس في الداخل، لكن بقاءهم خارج الخيمة يعني الموت بلا شك، فلا أحد يحتمل درجات الحرارة العالية هذه.
“إننا ننصهر، هذه هي حياتنا هنا في الأغوار، والخيمة لا تكفي للوقاية من لهيب الشمس، الأطفال يجلسون في الماء طوال الوقت، هذا هو جهاز التبريد الخاص بنا”، كما يقول بشارات.
احتلال المياه
يعيش يوسف بشارات مع 4 عائلات فلسطينية أخرى في خربة مكحول في الأغوار الشمالية، وهي واحدة من 27 خربة وتجمع بدوي تتوزع على طول الأغوار الشمالية منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967.
وتمنع عنهم إسرائيل خطوط الماء والكهرباء، وتحرمهم من أبسط مقومات العيش ضمن مخطط لترحيلهم عن أراضيهم، والسيطرة عليها. وفي حين يعتمد السكان على تربية المواشي كمصدر للدخل، تحرم قوات الاحتلال بشارات وجيرانه من إنشاء شبكات المياه لاستخداماتهم اليومية وري مواشيهم.
وأضاف “خط المياه الواصل للمستوطنة على الجبل المقابل يمر من أمام خيمتي، ويبعد عنها نحو 3 أمتار لا أكثر، لكنني محروم من مد خط أصغر منه لأطفالي والماشية التي أعيش من تربيتها”، متابعا “أحتاج يوميا لنقل المياه من مناطق بعيدة وعبر صهاريج المياه التي تقطع مسافات طويلة للوصول إلينا، وفي هذا الجو الحار جدا يزيد استهلاكها للماء إلى الضعف تقريبا”.
وتحتاج عائلة يوسف بشارات نحو 10 أكواب من الماء كل يومين بتكلفة تصل إلى 250 شيكلا، لكن بشارات يؤكد أن حاجتهم الفعلية تزيد على ذلك، خاصة مع حاجة الأغنام للمياه بكميات أكبر في مثل هذا الجو الحار جدا، غير أن تكلفة شراء الماء ونقله مرهقة لبشارات وأمثاله من العائلات في خربة مكحول.
وأقامت إسرائيل شركة لنقل المياه من الينابيع المنتشرة في الأغوار الشمالية إلى المستوطنات ومعسكرات الجيش المتمركزة على رؤوس الجبال، وتعد شركة “ميكروت” الإسرائيلية من أضخم الشركات في ضح ونقل المياه عبر مسافات شاسعة في حقول الأغوار الشمالية، لكنها مخصصة للمستوطنين فقط، ولا يمكن لأي فلسطيني أن يستفيد منها.
ومنذ عام 1967، سيطرت إسرائيل على أكثر من 13 نبعا في مناطق بدوية فلسطينية، مثل: عين الساكوت والبيضا والمالح وعين الحلوة، وحولت عددًا منها إلى محميات طبيعية ومتنزهات، في حين استغلت الجزء الآخر لتزويد المستوطنات بالمياه عبر خطوط شركة “ميكروت”.
وتظهر دراسات أعدها باحثون وحقوقيون فلسطينيون أن معدل استهلاك الفرد الواحد من المستوطنين من الماء في الأغوار الشمالية يفوق 8 أضعاف استهلاك الفرد الفلسطيني.
مضايقات مستمرة
وتمنع إسرائيل الفلسطينيين في الأغوار من البناء وإقامة المنازل، كما تحرمهم من التنقل بحرية والرعي في مساحات شاسعة من حقول الرعي، بحجة أن هذه السهول مناطق تدريب عسكرية، لذا يعتمد السكان على الخيام للإقامة في أراضيهم في الأغوار.
وتفتقر هذه الخيام لمقومات الحياة الأساسية، إضافة إلى أن إسرائيل تلاحق سكان الخيام وترسل لهم إخطارات بالهدم بشكل مستمر، وهو ما حدث مع يوسف بشارات حين هدمت خيمته في خربة مكحول أكثر من 4 مرات خلال السنوات الأخيرة.
وحين التقينا عائلة يوسف بشارات، كانت قوات الاحتلال احتجزت ابنه الأكبر وهو يرعى الأغنام في حقل قريب من خيمتهم، حيث اقتادته إلى جهة مجهولة بحجة تجاوزه وأغنامه حدود معسكر لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وحتى الآن لم يتلق والده أي خبر عنه رغم محاولته الاتصال بالجهات المسؤولة.
وفي حين يتلقى نحو 9000 مستوطن كافة الخدمات الأساسية والترفيهية في المستوطنات المقامة في مناطق الأغوار، يُحرم الفلسطينيون من مد خطوط الكهرباء لإنارة منازلهم، وتصادر ألواح الطاقة الشمسية التي تكفي بالكاد الإنارة والثلاجات الصغيرة.
الأطفال في مواجهة لهيب الشمس والاحتلال
في هذا السياق، يقول الحقوقي والمختص في ملف الأغوار الشمالية عارف دراغمة إن “إسرائيل سيطرت على كافة أراضي المراعي في الأغوار الشمالية، وفي ما تحرم نحو 600 عائلة في مختلف مناطق الغور الفلسطيني من كافة البنية التحتية الأساسية للعيش؛ توفر لنحو 38 مستوطنة خدمات المياه والكهرباء والتبريد، إضافة إلى تحويل الينابيع لمناطق ترفيهية، ولا يدخلها سوى المستوطنين فقط”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف دراغمة “الوضع الصحي خطير جدا في الأغوار؛ فالأطفال يواجهون درجات الحرارة المرتفعة وحدهم، ويرتدون ملابس مبلله لتخفيف الحر عنهم، ويرشون أجسادهم بالماء، ويحرمون من توفر ماء بارد للشرب مثلا”.
وأكد دراغمة أن خيام السكان ليست صالحة للعيش في مثل هذه الأجواء الحارة، فهي معدة من الخيش والبلاستيك الذي لا يقاوم الحرارة ولا يعزلها، بل على العكس يمتصها فيزيد صعوبة الجلوس داخلها.
وأشار إلى سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التضييق على حياة المواطنين في الأغوار بهدف ترحيلهم لزيادة السيطرة على الأراضي ومصادرتها، حيث تعمد قوات الاحتلال بشكل مستمر إلى مصادرة صهاريج المياه التي يستخدمها السكان لنقل المياه من الينابيع البعيدة أو حتى من القرى المجاورة للغور، مضيفا “ثم يطلبون من أصحابها غرامة مالية مرتفعة لإعادتها لهم ، كل ذلك لترحيل المواطنين من هنا”.
وبالإضافة إلى الوضع الإنساني الصعب الذي يرافق الارتفاع الكبير في درجات الحرارة في هذه المنطقة، فإن ذلك يؤدي إلى خسائر في الإنتاج الزراعي للمزارعين هنا، وهو ما أوضحه دراغمة بالقول إن “إنتاج حقول النخيل مثلا يختلف بين يوم وآخر تبعا لتغير درجات الحرارة، هذه الموجة أثرت على إنتاج التمر، وعلى الزراعات التي تعتمد الري اليومي كالخضراوات”.
ووصلت درجات الحرارة في الأغوار الشمالية إلى قرابة 45 درجة مئوية، وتتوقع دائرة الأرصاد الجوية الفلسطينية أن ترتفع درجات الحرارة مرة أخرى مطلع الأسبوع المقبل لتكون أعلى من معدلاتها السنوية بنحو 6 درجات.
عذاب مستمر
داخل منزله في منطقة حمصة الفوقه، يجاهد محمود بشارات (40 عاما) لتسلية أطفاله ومنعهم من الخروج إلى الخارج، في حين يبكي طفله البالغ من العمر عاما واحدا من شدة الحر والعطش.
ويقول محمود إن عليه منع أطفاله الأربعة من اللعب خارج المنزل، لأن ذلك يعني إصابتهم بضربات الشمس، وهو ما يترتب عليه صعوبة نقلهم لأي مركز صحي، فلا مراكز قريبة ولا حتى أطباء لحالات الطوارئ، مضيفا أن اللعب بالماء للتسلية والتبريد معا، حيث لا توجد مكيفات هنا.
وأضاف أن آخر مرة أصيبت طفلته ليلاس بضربة شمس نجت بأعجوبة، بعد نقلها للمركز الصحي الذي انتظرت فيه 4 ساعات من دون أن يأتي طبيب لعلاجها، مضيفا “نقلناها إلى مدينة طوباس بعد ذلك؛ فالأطباء لا يتوفرون دائما في المناطق النائية هنا”.
وكان حظ محمود أفضل قليلا من حظ يوسف بشارات وسكان خربة مكحول، فقد حصل على 4 ألواح للطاقة الشمسية قدمت له بدعم خارجي، غير أن التيار الكهربائي الناتج عن هذه الألواح ضعيف جدا لا يكفي سوى لإنارة المنزل وتشغيل مروحة واحدة.
خلف منزل محمود المبني من الطوب منذ عام 1967، بُنيت حظيرة من الصفيح، تضم 80 رأسا من الغنم، يقول محمود إن كل رأس منها يحتاج إلى 11 لترا من الماء صباح كل يوم.
وأضاف “نحتاج إلى 3 أكواب من الماء يوميا، أشتري الكوب الواحد بـ22 شيكلا، هذا عدا عن أجرة النقل وسعر الديزل. وفي الحقيقة، في يوم شديد الحرارة كاليوم أحتاج إلى أكثر من 4 أكواب، لكن ليس بمقدوري توفيرها بسبب التكلفة المرتفعة”.
وأكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يصادر صهاريج المياه دائما “لمنعنا من الشرب وترحيلنا من هنا، آخر مرة صادروا صهريج الماء، وأجبروني على دفع غرامة مالية مقدارها 3 آلاف شيكل”.
ويتحسر محمود على حاله وأبنائه هنا وحال سكان الأغوار بشكل عام، فالحياة هنا -في رأيه- عذاب مستمر، والقوانين الإسرائيلية جائرة لا تطبق سوى على الفلسطينيين، والهدف واضح هو سرقة الأغوار كلها.