كيف تحول جهاز أمن أوكرانيا من العمالة لروسيا إلى صداع لها؟
كييف- انفصل جهاز المخابرات الأوكراني، المعروف محليا باسم جهاز أمن أوكرانيا “إس بي يو” (SBU) عن جسد “لجنة أمن الدولة” زمن الاتحاد السوفياتي “كي جي بي” (KGB)، ليبقى أحد أهم وأقوى الأجهزة الأمنية في أوكرانيا اليوم.
ومنذ الانفصال عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، شابت صورة الجهاز كثير من الشكوك المتعلقة بحقيقة الاستقلال والتبعية والولاء، والتي تعززت عام 2014 باتهامات صريحة بشأن “تسليم شبه جزية القرم” لروسيا، والمساهمة في “خلق وتنظيم” الحراك الانفصالي بمقاطعات خاركيف ودونيتسك ولوغانسك شرق وجنوب شرق أوكرانيا.
حتى أن انطباعا ذهنيا تشكل لدى شريحة واسعة من الأوكرانيين بأن جهاز أمنهم “عميل” لروسيا في حقيقته، وعلى رأس قائمة المؤسسات التي تحتاج إلى “تطهير وتطوير”، كما كانوا يرددون عند كل “ثورة” ومنعطف سياسي، مع اليقين بأن محاربة الفساد في هذه المؤسسة الأمنية النافذة ستكون “الأصعب” والأكثر تعقيدا.
صداع لروسيا
ولكن الصورة والانطباع الذهني تغير جذريا في عقول الأوكرانيين إلى جهاز أمنهم بشكل واضح، فالجهاز يتبنى اليوم عمليات نوعية ضد الوجود الروسي في القرم والبحر الأسود، من أبرزها استهداف جسر القرم وعدة سفن روسية، مع توعده للكرملين “بالمزيد والجديد” من العمليات.
ومن آخر نشاطات الجهاز على المستوى الداخلي أيضا، جاءت نتائج عمليات تفتيش في دوائر التجنيد، أدت إلى إقالة مسؤولي التعبئة جميعا في البلاد، بسبب ظاهرة استغلال المناصب واسعة النطاق، والسماح بتهرب المكلفين من الخدمة العسكرية.
فكيف تحول الجهاز من “عميل” لروسيا إلى مصدر صداع كبير لها؟ ولماذا تأخر هذا التحول لسنوات طويلة؟ وما أبرز المنعطفات التي أوصلته إلى “صدارة المشهد” في خضم الحرب من الاستقلال حتى 2014؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، تحدثت الجزيرة نت مع اللواء فيكتور ياهون نائب رئيس جهاز أمن أوكرانيا، في الفترة ما بين مارس/آذار 2014 ويونيو/ حزيران 2015، الذي قسّم تطور الجهاز إلى 3 مراحل، أولها منذ الاستقلال وحتى أحداث 2014، وثانيها منذ ذلك الحين وحتى بداية الحرب في فبراير/شباط 2022، وآخرها مرحلة الحرب المستمرة حاليا.
يقول ياهون: “على عكس باقي الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي وسارعت إلى تحديث دمائها وتطبيق المعايير والنماذج الغربية، فإن عملية فك الارتباط والتخلص من رجالات ’الإرث القديم‘ كانت بطيئة في أوكرانيا، التي بقيت حتى وقت متأخر تعتمد على ’قيادات قديمة‘، وتتعامل حتى بأوراق ووثائق يعتمد تسلسلها الرقمي على ما كان مرتبطا بفترة التبعية المباشرة لموسكو”.
وأضاف في سياق آخر: “لا أقول إن شريحة واسعة من العاملين في الجهاز كانوا ’خونة‘، ولكن شريحة واسعة كانت لا تنظر بالفعل إلى روسيا كتهديد أو عدو، أو كخصم حتى، بل كانت ترى في روسيا والروس دولة شقيقة وأشقاء”.
بداية الإصلاح
ولعل غالبية الأوكرانيين يجمعون على أن أحداث عام 2014 كانت الأبرز في بلدهم عموما قبل الحرب الراهنة، ومقدمة لعملية “إصلاح” جهاز أمنهم على وجه الخصوص.
يتفق اللواء ياهون مع هذا، قائلا “نعم، كان للجهاز مساهمة في تسليم القرم إلى روسيا من دون أي مقاومة تذكر عام 2014، ولكن الحقيقة التي لا يعرفها كثيرون هي أن شريحة واسعة من مسؤولي وأفراد الجهاز لم يروا في ذلك أي خيانة، بل انتقالا من تبعية إدارية إلى أخرى، على أساس أن كييف وموسكو وجهان لشعب واحد”.
وتابع: “هذه النظرة هي التي تغيرت جذريا مع احتلال القرم وأجزاء من دونيتسك ولوغانسك. ومع مرور الوقت، دفعت قيادة الجهاز الجديدة إلى تسريح كثير من العاملين القدامى، أو حثتهم على الانتقال إلى مجالات تستند إلى خبراتهم، كالتدريس في الجامعات وغيرها”.
وكمثال على ذلك يقول: “كان فرع الجهاز في خاركيف شرقا ينظم مسابقات رياضية دورية مع نظيره في بيلغورود الروسية. وفي تلك السنة، تكشفت محاولات عمليات تخريبية في خاركيف، كان جهاز بيلغورود يقف وراءها”.
مواجهة روسيا
كان جهاز الأمن الأوكراني “إس بي يو” عرّاب ومسؤول عملية مكافحة الإرهاب التي أطلقتها أوكرانيا ضد الحراك الانفصالي الموالي لروسيا شرق البلاد عام 2014، قبل أن تعهد مسؤولية العمليات العسكرية كلها إلى وزارة الدفاع عام 2016.
وفي خضم الحرب بعد مرور الأعوام، أصبح جهاز الأمن الأوكراني واحدا من أبرز المؤسسات التي تقارع تشكيلاتها الاستخباراتية والتنفيذية المختلفة الروس.
واليوم، يتعاون الجهاز مع البحرية وغيرها من الجهات العسكرية، ويشرف على “مصانع تحت الأرض تنتج المسيرات”، كما أعلن رئيسه الحالي فاسيل ماليوك، الذي توعد الروس بمفاجآت قريبة، خاصة في حوض البحر.
يؤكد اللواء فيكتور ياهون للجزيرة نت أن “ولاء جهاز أمن أوكرانيا اليوم للدولة قيادة وشعبا وأرضا بنسبة لا تقل عن 99%، بعد أن كانت في حدود 50% قبل 2014، و75% حتى بداية الحرب”.
لكنه يلفت إلى مخاوف لديه، بالقول: “يجب أن تبقى مهمة الجهاز الرئيسية حماية أمن وسلامة أوكرانيا، ويجب ألا يُقحم في قضايا الفساد التي كثر الحديث عن أدواره فيها مؤخرا، نظرا لأن مجال محاربة الفساد له مؤسساته الخاصة، التي يجب أن تفعل أدوارها بشكل مستقل”.
محاربة الفساد
يعد الفساد في أوكرانيا أبرز عائق حال دون تحسن مستويات الخدمات والمعيشة في بلدهم الغني بالثروات، كما حال دون تقارب البلاد مع الاتحاد الأوروبي قبل الحرب، ويحول دون القدرة على مواجهة أفضل أمام الروس في أثناء الحرب.
ويؤكد وزير المالية الأوكراني سيرهي مارتشينكو أن “مستوى الفساد في أوكرانيا هو الآن الأدنى منذ 20 سنة مضت، وعملية محاربة الفساد لا تزال مستمرة”.
لتوضيح ذلك، قال المحلل السياسي أوليكسي كوشينكو، للجزيرة نت: “أتفق مع رأي الوزير، فكثير من أسباب الفساد اختفت بهروب كبار رجالاته واعتقال بعضهم المحسوبين أصلا على روسيا”.
ويرى أن “الفضيحة الأخيرة المتعلقة بدوائر التجنيد شكلت صدمة للسلطة والمجتمع في هذا التوقيت، واقتضت علاجا عاجلا وحاسما، ومع ذلك أعتقد أن فساد هذه الدوائر هو أدنى بكثير مما كان عليه قبل الحرب، كغيرها من مؤسسات ودوائر الدولة”.
وخلص كوشينكو إلى أن ثمة واقعا لا تستطيع أوكرانيا إغفاله وهو أن دول الغرب الداعمة بالمال والسلاح لا تتسامح مع الفساد، ولن تقبل أن تتبخر مساعداتهم بسببه، وهذا يفرض على كييف صرامة في التعامل مع أي فضائح أو شبهات تخص القطاع العسكري، الذي يحصل اليوم على ثلث ميزانية الدولة، بحسب وزارة المالية.