ساحة الكرامة.. لماذا اختيرت رمزا لحراك السويداء؟
السويداء- دخلت محافظة السويداء يوم الجمعة الماضي يومها العشرين من انتفاضتها ضد السلطة السورية بحشود ضخمة جاءت من قرى ومناطق كثيرة في المحافظة وأمت ساحة الكرامة وسط المدينة، استجابة لدعوات أطلقها ناشطون ضمن ما سموها “الانتفاضة الشعبية” ضد نظام الرئيس بشار الأسد.
واندلعت موجة الاحتجاجات الأخيرة في المدينة ذات الغالبية السكانية الدرزية (أقصى الجنوب السوري) لأسباب معيشية عقب رفع سعر المحروقات، وبدأت أول نشاطاتها بإعلان الإضراب العام في المحافظة، وخلال الأسابيع الثلاث الماضية أقفلت المحلات أبوابها، وتخلف العدد الأكبر من موظفي المحافظة عن الذهاب إلى أعمالهم، وتزامن ذلك مع إحراق الإطارات عند بعض مداخل المحافظة.
وحظيت “الانتفاضة” بأولى قفزاتها النوعية بانضمام المرجعية الدينية، ممثلة في شيخَي العقل حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في سوريا، والشيخ حمود الحناوي أحد شيوخ العقل الثلاثة للطائفة في سوريا، في حين اكتفى الشيخ يوسف جربوع -ثالث شيوخ العقل- ببيان منخفض السقف يُحمل الحكومة مسؤولية ما آلت إليه الأحوال ويطالب فيه بإقالتها.
امتدت الاحتجاجات أفقيا على نحو لافت ومغاير لمسيرة المحافظة منذ بداية الثورة السورية ضد النظام في مارس/آذار 2011، فقد ارتأت السويداء في ذلك الوقت أن تقف موقفا مختلفا عن بقية المناطق السورية، ورغم أنها لم تحظ بثورة شعبية ضد النظام -كحال جارتها درعا وسائر مدن الثورة- فإنها لم تُحسب نصيرةً للسلطة من قبل باقي السوريين ولا من قبل النظام نفسه، وعبّرت المحافظة عن موقفها بتخلف عشرات الآلاف من شبانها عن الالتحاق بالخدمة في الجيش.
سر التسمية الجديدة
لم تحظ ساحة الكرامة (ساحة السير أو ساحة الرئيس سابقا) بالرمزية التي هي عليها اليوم، فتاريخها يقول إنها كانت ميدانا لألعاب الفروسية، وكان الدروز فيها يتغنون بفروسيتهم ويرقصون خيولهم ويحيون الاحتفالات، كما يقيمون فيها بعض مراسم الجنازات، التي كان آخرها عام 1964، أي بعد انقلاب حزب البعث على السلطة بعام واحد.
ومع بداية سيطرة حافظ الأسد على السلطة في سوريا خلال سبعينيات القرن الماضي، أراد النظام للساحة وظيفة أخرى، فأنشأ فيها بعض المباني الحكومية، كمبنى المصرف التجاري على الحافة الشرقية للساحة، ومبنى بلدية السويداء على حافتها الغربية، وشُيدَ ما بين المبنيين دوار للسيارات، ليكون مكانا مثاليا لتشييد تمثال ضخم لحافظ الأسد في فترة الثمانينيات.
تقول الناشطة “س ن” -في حديث خاص للجزيرة نت- إن ساحة الكرامة بدأت تأخذ معنى آخر منذ أن تمت تصفية قائد فصيل رجال الكرامة الشيخ وحيد البلعوس، وهو قائد الفصيل الذي ظهر بدايات عام 2014، كحالة مسلحة منظمة مستقلة عن النظام ومعارضة له، وتحظى بتأييد شرائح واسعة في المحافظة.
وكان أول رد فعل من أهل السويداء ومقاتلي فصيل “رجال الكرامة” إسقاط تمثال حافظ الأسد في الساحة، لتكون تلك لحظة تحولها الأولى للاسم الجديد “ساحة الكرامة”، وتضيف “س ن” أن “الرمزية الحقيقية بدأت تنضج مع الحراك الاحتجاجي الأخير، ذلك أن التسمية الكرامة، لم تعد مرتبطة بفصيل، بل بعامة الناس التي خرجت لأجل كرامتها”.
“ميدان التحرير” في الجبل
تُذكّر مشاهد ساحة الكرامة في السويداء بتلك التي كانت ترد من ميدان التحرير في مصر خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهو ما تؤكده “س ن”، إذ لم تعد ساحة للتظاهر فقط، موضحة أن “ما يجري في الساحة مختلف هذه المرة؛ إنها تجمع كل أطياف المجتمع في مكان واحد، المحتجون من كل الشرائح والطبقات، مع وجود واضح ومؤثر للنساء ودورهن”.
ينظم المحتجون أنشطة مختلفة خلال أيام الأسبوع، دخلت مكبرات الصوت فخففت عبء الوقوف الطويل على قارعي الطبول وعازفي الموسيقى، فُتح النقاش العام في الساحة، وبات تداول شؤون البلاد قضية رأي عام، الرسامون والطلاب الذين لم يحققوا أحلامهم بدراسة الفنون الجميلة نظرا لضيق العيش بات لديهم مكان يحتوي أحلامهم وإبداعاتهم على السواء، ويتم الحديث عن تنظيم ورشات للنحت بإشراف نحاتين من السويداء الشهيرة بحجارتها البازلتية.
ويراعي المتظاهرون وجود النساء من خلال انضباط التعبير رغم صعوبة ضبط الجموع. وتدور فناجين القهوة المُرة على المتظاهرين، ويوزع أصحاب بساتين التفاح والعنب -التي تشتهر بها المحافظة- ثمار بساتينهم، ويكتبون عليها عبارات تشحذ الهمم وتدل على التكافل، كأن قيمًا غائرة بفعل الزمن والنظام قد بدأت تطفو مجددا على السطح في جبل العرب.
لقد أعادت الساحة الاعتبار إلى الشهداء، وقد حرمتها سطوة القوى الأمنية وانفلات السلاح من ذلك لسنين، فقد رفعت فيها صورة خلدون زين الدين، الملازم الذي انشق عن جيش النظام في مطلع الثورة وقضى في إحدى المعارك مع الفصائل الموالية لسلطة دمشق في الجبل.
“جاء دورنا”
يطور الحراك نفسه في السويداء يوما بعد يوم؛ يحاول خلق إستراتيجيات جديدة تكفل الاستمرارية وتدل على النضج، ويرسل رسائل للمتخوفين، من الأفراد والدول، مفادها أن النموذج الذي تحاول السويداء تقديمه يصلح لأن يكون سوريا، ويستحق الالتفات إليه على هذا النحو.
لم ينشغل المتظاهرون في يوم انتفاضتهم العشرين بالرد على سيل الاتهامات التي يطلقها مناصرو النظام وقنواته الإعلامية ضدهم، وشهدت مظاهرة الجمعة استقبال وفد من أهالي محافظة درعا، عاصمة الثورة السورية عام 2011، ورغم أن الوفد ربما لا يكون تمثيليا، فإنه يدل على أن الأفكار تتوالد يوما إثر يوم، وأن المحتجين لم يكتفوا بإحراق مراكبهم، بل إن أكثر ما يشغلهم هو انتماؤهم لسوريا موحدة، وكيفية الوصول إلى هذا الحلم.
لكنهم -في ما يبدو- عقدوا العزم على الكفاح وإن كانوا وحدهم، وهو الأمر الذي لفت إليه في بداية الاحتجاجات الحالية الرئيس الروحي للطائفة الدرزية حكمت الهجري حين قال: “لقد حملنا أهلنا السوريون خلال السنوات الماضية، وجاء دورنا اليوم لنحملهم”.