مواقد حطب ومياه بحر.. أهل غزة يبتكرون بدائل للعيش في وجه العدوان
غزة- تجلس باسمة عدوان أمام موقد حطب، صنعه زوجها عبد ربه يدويا، في منزلهما بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، للتغلب على أزمة نفاد الوقود وغاز الطهي.
موقد مصنوع من نصف برميل (حاوية من الحديد) وغيره من المواقد البدائية، لا تخلو منها اليوم غالبية منازل الغزيين، الذين يعيشون واقعا معيشيا مترديا للشهر الثاني على التوالي، جراء حرب شرسة تشنها إسرائيل على القطاع الصغير منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مترافقة مع حصار مطبق، ومنع كل الإمدادات الإنسانية، بما فيها الوقود.
ويبدأ يوم باسمة مع أول خيوط النهار، بعد صلاة الفجر، يشعل زوجها النار في قطع من حطب أشجار الزيتون والحمضيات، أسفل الموقد، ليكون جاهزا لإعداد وجبة الفطور لنحو 25 فردا في هذا المنزل الذي يستضيف نازحين من شمال القطاع، كما غالبية المنازل في النصف الجنوبي من القطاع.
باسمة وزوجها، مديرا مدرسة، أقعدتهما الحرب عن العمل، وقد تحولت نحو 215 مدرسة لمراكز إيواء للنازحين، تتبع غالبيتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
مواقد بدائية
استخدم عبد ربه برميلا قديما لديه، وأعاد تدويره وتحويله إلى موقد، بعدما نفد غاز الطهي من منزله في الأسبوع الثالث من الحرب، واشترى كمية من الحطب بسعر يفوق سعره الطبيعي، لاستخدامه في إيقاد الموقد، وإعداد الطعام لأسرته الصغيرة، ولأسر أبنائه الأربعة، ولصديقه بأسرته النازحة من مدينة غزة.
وتكتظ غالبية المنازل، ونحو 128 مركز إيواء في المحافظة الوسطى ومدينتي رفح وخان يونس جنوب القطاع، بمئات آلاف النازحين، الذي أخلوا منازلهم قسرا على وقع إنذارات وتهديدات إسرائيلية.
ووجدت باسمة في هذا الموقد البدائي بديلا مناسبا عن “البوتاجاز” الذي يعمل بغاز الطهي، وتنجز عليه كل احتياجات منزلها من طبخ ومشروبات ساخنة، وبديلا كذلك عن “طنجرة كهربائية” كانت تستخدمها لإعداد الخبز، وباتت مهملة مع الانقطاع الدائم للكهرباء منذ أيام الحرب الأولى.
وتعاني هذه الأسرة كما غيرها من شح مياه الشرب، والمياه اللازمة للنظافة والاستخدامات المنزلية الأخرى، مما اضطر عبد ربه إلى المخاطرة لإنزال “خزانات بلاستيكية” كبيرة خاصة بالمياه، ووضعها أرضا، لعدم توفر وقود لازم لتشغيل مولد يستخدمه لضخ المياه وتعبئتها فوق سطح المنزل المكون من 3 طوابق.
لكن شقيقه “أبو أيوب” -المقيم في مخيم الشابورة بالمدينة- لجأ إلى حيلة أخرى لضخ مياه مالحة يجلبها بواسطة سيارة نقل من بئر تجارية، حيث عمد إلى تحويل مولد يعمل بالسولار المفقود في غزة، ليعمل على الغاز المتوفر في آخر أسطوانة يمتلكها في منزله.
البحر يساند جيرانه
ويقول مساعد رئيس “لجنة الطوارئ” بالقطاع المهندس زهدي الغريز للجزيرة نت “إن أكثر من 90% من المنازل تفتقر إلى أي نوع أو مصدر للمياه، بعدما توقفت البلديات منذ أسابيع عن ضخ المياه من الآبار الجوفية إلى المنازل، لعدم توفر الكهرباء ونفاد الوقود، أو نتيجة الاستهداف المباشر لها بالقصف الجوي والمدفعي”.
ولم يجد أبو محمد القرعان من سبيل أمامه سوى التوجه بأسرته إلى شاطئ البحر المقابل لمنزله في مدينة دير البلح، وسط القطاع، للاستحمام، وتنظيف الأواني المنزلية، وغسل الملابس.
آخرون من أمثال أبو محمد كان البحر خيارهم للنظافة الشخصية، ونقل المياه المالحة في أوان وعبوات بلاستيكية للنساء في المنازل، لاستخدامها في الأعمال المنزلية، بعدما جفت المياه في الصنابير والأنابيب بهذه المدينة، وهي إحدى مدن ومخيمات المحافظة الوسطى، التي تعتمد على نحو أساسي من بين مصادر المياه القليلة على خط مياه إسرائيلي، قطعته إسرائيل، كأحد الإجراءات الأخرى التي اتخذتها لإحكام الخناق على القطاع.
ويقول أبو محمد بسخرية لا تخلو من قهر “لو كانوا يستطيعون منع الهواء ومياه البحر عنا لفعلوا (..) نعيش في غزة في سجن كبير، والبحر هو متنفسنا الوحيد، والآن أصبح مصدر المياه الوحيد”.
مآس جديدة
وحول موقد صنعه من “حوض” غسالة قديمة، يجلس شريف النيرب إلى جوار والده السبعيني المنحدر من عائلة لاجئة من بلدة “برير” داخل فلسطين المحتلة إبان نكبة 1948، ويقول شريف للجزيرة نت “نعيش مشاهد التغريبة الفلسطينية ومآسي النكبة واقعا يوميا”.
وحولت أسرة شريف أداة تعمل على الكهرباء للعمل بواسطة الفحم، من أجل إعداد الخبز، الذي يشهد أزمة حادة لندرة الدقيق، وتعرض مخابز كثيرة على امتداد القطاع للقصف الجوي.
شريف صحفي في العقد الرابع من عمره، يعلم تفاصيل كثيرة لم يعايشها بنفسه، ولكنه سمعها من والده وجيل النكبة الأول، ويعتقد أن “ما تسببت به الحرب الحالية على غزة لا تقل عن المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وأجبرت آباءنا وأجدانا على الهجرة القسرية”.
ويقول “نعيش نكبة جديدة، وقد أعادتنا إسرائيل عقودا للوراء، حيث لا كهرباء، ولا مياه، ونستخدم بقايا أوراق وأخشاب لنعد الطعام لأطفالنا”.
وخلفت أزمة انقطاع الكهرباء مشهدا بات مألوفا بالشوارع وأزقة المخيمات، لأناس يتجمهرون حول “وصلة كهربائية” تستمد الطاقة من خلايا شمسية لمنزل أو جمعية أهلية، من أجل تمكين الناس من إعادة شحن هواتفهم النقالة، وبطاريات صغيرة توفر إنارة بسيطة للمنازل ليلا.
ويتابع شريف ووالده تطورات الأخبار عبر مذياع قديم يعمل بواسطة بطاريات صغيرة، ويقول “هذه حرب مختلفة عن حروب كثيرة سابقة، والذي ينجو منها سيكتب له عمر جديد”.