التحالف الثلاثي يروي حكاية القرن الأفريقي المضطرب
في أحد الأيام الرائقة التي يشتهر بها خريف أسمرة وبالتحديد في 6 سبتمبر/أيلول عام 2018 ضمت قاعة اجتماعات في العاصمة الإريترية 3 رجال لم يكن أحد ليتخيل أن يجمعهم مكان واحد.
وجلس على الطاولة كل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي والرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، ليعلنوا تحالفا ثلاثيا بين دولهم.
كان الإعلان بمثابة نقطة تحول إقليمية، إذ شهد العقدان السابقان أحداثا جساما شكلت خريطة تحالفات وضعت إثيوبيا والصومال في مواجهة طويلة الأمد مع أسمرة، أدت إلى إيقاع عقوبات دولية على إريتريا عام 2009 بذريعة تشكيلها عنصر عدم استقرار في المنطقة بدعم مسلحين صوماليين، وهو ما دأبت أسمرة على نفيه، في حين تواصل السعي الإثيوبي المدعوم أميركيا لمحاصرة إريتريا وتحويلها إلى ما وصفه البروفيسور مايكل ولديماريام بـ”الدولة المنبوذة”.
حالة اللا حرب واللا سلم بين أسمرة وأديس أبابا التي استمرت 18 عاما عقب الحرب بين البلدين (1998-2000) حولت القرن الأفريقي إلى ساحة لصراعات الوكالة عمد فيها كل طرف إلى دعم معارضي خصومه، وتحولت الحدود بين البلدين إلى قنبلة موقوتة وشيكة الانفجار كما حدث في المناوشات الحدودية بينهما صيف عام 2016.
آبي أحمد رئيسا
في ظل هذه البيئة الشديدة العدائية كان وصول الدكتور آبي أحمد إلى سدة رئاسة الوزراء في إثيوبيا في مايو/أيار 2018 انطلاقة لعجلة التغييرات الدراماتيكية التي شملت الإقليم بموجة من المصالحات بين إثيوبيا وإريتريا وبين الأخيرة والصومال.
كل ذلك كان ضمن رؤية إقليمية تبحث عن مسار جديد للعلاقات بين الأطراف الثلاثة على أسس من التعاون السياسي والتكامل الاقتصادي، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار أحمد “أكبر مؤيد لتوحيد القرن الأفريقي”.
ولد هذا التحالف ابنا شرعيا وممثلا لروح التفاؤل التي غمرت القرن الأفريقي في حينه، ووضع لقاء أسمرة (2018) وما تبعه من قمم ثلاثية وأهمها قمة بحر دار في إثيوبيا (2020) خطة عمل مشتركة تركز على الهدفين الرئيسيين والمتشابكين لتوطيد السلام والاستقرار والأمن وكذلك تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودعم الجهود المشتركة لتعزيز التعاون الإقليمي الفعال.
تسارعت الانعكاسات الإيجابية لهذه التطورات على استقرار المنطقة وتوجت بالمساهمة الإريترية في المصالحات بين الحكومة الإثيوبية ومعارضيها المدعومين من أسمرة، مما ترافق مع رفع العقوبات الأممية عن إريتريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 بدعم ومطالبة من كل أديس أبابا ومقديشو.
مطامح إقليمية
تذهب ورقة نشرها المعهد الألماني لدراسات العالم والمناطق إلى أنه كان لإثيوبيا، أكبر اقتصادات القرن الأفريقي، مصلحة مباشرة في تعزيز روابط النقل مع جيرانها واستخدام موانئهم بما يخلصها من عبء اعتمادها على ميناء جيبوتي في 95% من وارداتها وصادراتها.
كما أن هذا التحالف سيمكن أديس أبابا من خلق سوق مشتركة تستطيع من خلالها تصدير السلع المصنعة محليا بجانب الطاقة الكهربائية من سد النهضة.
في المقابل ستستفيد كل من إريتريا والصومال من تطوير البنى التحتية لشبكات النقل والمرافق البحرية والعائدات المتحصلة من فتح موانئهما أمام حركة التجارة الإثيوبية.
وطمحت مقديشو أن يحولها التحالف إلى “مركز نقل عالمي ينافس لاعبين آخرين في المحيط الهندي والبحر الأحمر” كما وصفها السفير أحمد عبد السلام عدن المدير التنفيذي لمركز القرن للحوكمة الفعالة وتطوير السياسات.
على المستوى السياسي وبالنظر إلى اقتراب الانتخابات في الصومال وإثيوبيا حينها عززت ولادة هذا التحالف سمعة فرماجو وآبي أحمد كقائدين على المستوى الإقليمي، بعد أن توسعت دائرة المعارضة السياسية لرئيس الوزراء الإثيوبي لتضم أحزابا نافذة ضمن الأورومو مجموعته العرقية ذاتها، يقف على رأسها زعماء يتمتعون بشعبية عريضة كجوهر محمد.
في حين كان التحالف الناشئ يلبي حاجة الرئيس الصومالي إلى دعم إقليمي يمكنه من مواجهة الولايات الصومالية القوية، وإلى الاستعانة بحلفائه الجدد لردع الجيران ولا سيما كينيا عن التدخل في الشأن الصومالي، وإيقاف الدعم الإريتري المفترض للمسلحين الراديكاليين.
من جانب آخر مثّل الكيان الجديد فرصة للرئيس الإريتري أسياس أفورقي لاستعادة الأراضي الواقعة تحت سلطة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، كما أنه كان مدخلا لتمتين العلاقة مع أديس أبابا على قاعدة العداء المشترك لجبهة التيغراي.
منح التحالف أفورقي المعروف بطموحه لقيادة الإقليم فرصة لاكتساب النفوذ على مستوى القرن الأفريقي، ولمحاصرة جيبوتي المتنازعة حدوديا مع أسمرة منذ الحرب المحدودة بينهما عام 2008.
ملفات التحالف
رغم أن إعلان التحالف تضمن طيفا واسعا من مجالات النشاط المشتركة، لكن أهم البصمات التي خلفها انعكست في ملفين رئيسيين: المركزية في الحكم، وحرب التيغراي، حيث برز فيهما دور الرؤى التأسيسية للتحالف في التأثير على طبيعة الحياة السياسية وعلى التوازنات بين القوى السياسية الفاعلة، وفي تبادل قادته الدعم في مواجهة خصومهم المحليين.
طُرحت المركزية كفلسفة بديلة للحكم في الدولتين الفدراليتين في الإقليم الصومال وإثيوبيا، على خلاف إريتريا التي تُحكم بنظام مركزي شديد الصرامة.
اختار الصوماليون ما وصفه الباحث في الشان الأفريقي الشافعي أبتدون بـ”الفدرالية القبائلية” نظاما للحكم في دستور عام 2012 كتوليفة سياسية تضمن استمرار الصومال كدولة من جهة وتعترف من جهة أخرى بالكيانات الإقليمية التي فرضت وجودها في ظل الحرب الأهيلة كولايات فدرالية.
في حين أقرت الفدرالية العرقية في إثيوبيا كطريقة لإدارة التنوع الإثيوبي من خلال تقسيم البلاد إلى ولايات واسعة الصلاحيات قائمة على أساس العرق واللغة بما يحول دون تفكك البلاد التي تعاني طبقات عدة من النزاعات المتشابكة.
كانت الفدرالية محاولة واقعية لحل أزمة البلدين لكنها لم تكن حلا سحريا، حيث برز التشاكس على الصلاحيات والموارد بين المركز والولايات في الصومال، كما نمت الروح القومية وتصاعدت بشكل يهدد بصراعات عرقية في إثيوبيا، فكان البحث عن صيغة جديدة للحكم من السمات التي قربت كلا من الرئيس الصومالي فرماجو ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
الحكومة المركزية
في ظل هذا الواقع تلحظ ورقة صادرة عن معهد الدراسات الأمنية بروز مقاربة إثيوبية جديدة قائمة على دعم الحكومة المركزية في مواجهة الولايات الفدرالية، في انقلاب كامل على النهج الإثيوبي الذي ظل متبعا قبل ذلك، واستعان فرماجو بالقوات الإثيوبية لمنع فوز مختار روبو المرشح في الانتخابات الرئاسية في ولاية جنوب غرب الصومال، حيث انتهى بمواجهات دامية بين الطرفين في ديسمبر/كانون الأول 2018 .
بلور آبي أحمد رؤية لحكم مركزي من خلال كتابه الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2019 بعنوان “مدمر” بمعنى التآزر، كانت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أكبر ناقديها، وتفاعل هذا الخلاف بين الطرفين ليصبح صراعا داميا في حرب التيغراي (2020-2022).
وتصف ورقة نشرها المعهد المصري للدراسات عام 2021 مجريات هذه الحرب بأنها “أوضح الأمثلة على التشابكات المعقدة بين السياسي والعسكري في التحالف الثلاثي”، حيث كان للقوات الإريترية دور حاسم في إعلان آبي أحمد انتصاره على التيغراي.
كما أكد تقرير أممي مشاركة قوات صومالية كانت تتلقى تدريبات في إريتريا في المعركة في إقليم تيغراي إلى جانب الجيش الإريتري، وهو ما نفته الحكومة الصومالية.
التحالف الثلاثي.. إلى أين؟
اعتبر التحالف خطوة مهمة في مسار تعزيز السلام والتكامل، لكنه كشف أيضا عن وجوه قصور حادة حيث ما يزال ترسيم الحدود رسميا بين إثيوبيا وإريتريا معلقا مع تجميد كامل للانفتاح الاقتصادي بين البلدين.
من جهة أخرى أسهم التحالف في إنشاء خطوط صدع جديدة ومفاقمة التوترات الموجودة على العديد من المستويات، حيث أدى الدعم الإثيوبي لجهود الرئيس الصومالي فرماجو نحو مركزية السلطة إلى تصاعد التوتر بينه وبين حكام الولايات الأقوياء مما كاد يصل إلى شفا المواجهات المسلحة أكثر من مرة، في حين أدت حرب التيغراي إلى تداعيات كارثية وتعريض إثيوبيا لمخاطر الانهيار والتفتت.
من جانب آخر غذت الطبيعة الحصرية للتحالف ريبة أطراف أخرى وجدت نفسها مستبعدة منه، حيث رأت جيبوتي فيها تهديدا جديا لمصالحها مع توجه إثيوبيا نحو الموانئ الصومالية والإريترية.
كما أثرت سياسات التحالف سلبا على درجة التماسك الإقليمي، حيث زاد دعم أديس أبابا لفرماجو حدة التنافس الإثيوبي الكيني في الصومال وبلغت قوات البلدين الموجودة ضمن بعثة السلام الأفريقية في الصومال حافة الاشتباك في مارس 2020، على ضوء دعم نيروبي لحاكم ولاية جوبالاند أحمد مادوبي في مواجهة الرئيس الصومالي.
حرب التيغراي
ومثلت حرب التيغراي ذروة التنسيق بين أطراف التحالف، وحملت داخلها بذور أولى الهزات الحادة التي اعترضت طريقه، في مفارقة تاريخية لافتة، حيث قادت اتفاقية بريتوريا لوقف العدائيات (نوفمبر 2022) بين الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي وأديس أبابا إلى توتر علاقات الأخيرة مع إريتريا التي كان لها موقف من المصالحة في جارتها الكبرى.
اتسعت الأزمة المكتومة بين أسمرة وأديس أبابا مع بروز المطالب الإثيوبية بمنفذ بحري سيادي على البحر الأحمر ما أثار مخاوف جيرانها الساحليين، وقامت إريتريا بتعزيز قواتها على الجبهة الجنوبية تخوفا من غزو إثيوبي محتمل على ميناء عصب الجنوبي.
الخطوة الإثيوبية المفاجئة بتوقيع مذكرة تفاهم مع أرض الصومال تدرس أديس أبابا بموجبها الاعتراف باستقلال أرض الصومال في حين يمنحها الأخير منفذا بحريا وقاعدة عسكرية أثارت غضبا صوماليا عارما وأشعلت فتيل توتر ما يزال يتصاعد إقليميا.
تسارع هذه التطورات كشف عن صدوع عميقة من عدم الثقة بين الشركاء الثلاثة وافتقادهم لإستراتيجية وآليات تمكنهم من حل الخلافات البينية وتجاوزها وفق منهجية تكاملية موعودة، ملقيا بظلال كثيفة من الشك حول إمكانية استدامة هذا التحالف مستقبلا، مع توجه المنطقة نحو اصطفافات جديدة تضع كلا من إريتريا والصومال في مواجهة إثيوبيا، فيما يكاد يكون نكوصا كاملا إلى ما قبل 2018 كأن التاريخ يعيد نفسه في القرن الأفريقي مع تغيير مواقع اللاعبين.