مقابر مؤقتة وجثث مجهولة.. الوجه الآخر لحرب السودان
الخرطوم- امتحنت الحرب التي أغلقت عامها الأول غالبية السودانيين في أعز ما يملكون (أحبابهم)، وبأحوال صار معها التشييع للمقابر غير متاح، مرة بسبب المعارك ومرات ضمن تدابير عقابية خاصة في مواقع سيطرة قوات الدعم السريع، مما جعل المقابر المؤقتة ظاهرة منتشرة.
وبسبب الحرب لم يعد هناك من سبيل للدفن في المقابر المعلومة كالسابق، فقد أقيمت أخرى جديدة ومؤقتة لتمنح الموتى الذين يغادرون ضمن خسائر الحرب من المدنيين وسكان الأحياء، رقدتهم الأخيرة دون التعرض لمخاطر تشييع الجنازات، وكأن الحرب قررت أن تقتلهم مرتين.
عملية معقدة
أصبحت إقامة مراسم الدفن عملية معقدة، بعد أن كانت تتم للسكان في مقابر الأجداد بالجمرية أو البكري أو حمد النيل، بالنسبة لسكان أم درمان، أو مقابر الفاروق والرميلة وبري لسكان جنوب الخرطوم وشرقها ووسطها، أو مقابر البنداري لشرق النيل والحاج يوسف، أو شمبات لأهل بحري.
ويقول المواطن محمد أحمد عيسى للجزيرة نت إن الموتى يُدفنون بمناطق أمبدة في مدرسة الحميراء الأساسية للبنات، موضحا أن الفضاء الطرفي بالمدرسة امتلأ فانتقلوا إلى آخر خلف مسرح النشاط، فيما أقيمت مقبرة أخرى إلى جوار شارع إسفلت رئيسي قبالة الحارة السابعة تسمى مقابر الهضبة المؤقتة بجوار المدرسة النموذجية قبالة الحارة الثانية.
ولا يملك عيسى تصورا حول مستقبل تلك المدافن لكنه أوضح أن كثيرا من أقارب المتوفين يلجؤون لها في ظل ظروف الحرب ومخاطرها، واستعرض حادثة محاولة تشييع جثمان إلى مقابر الجمرية بالقرب من السوق الشعبي حيث تعرض موكب التشييع لإطلاق نار من قناصة عاد بسببها المشيعون بـ3 جثث من حاملي الجنازة ليُدفنوا معا.
مقابر منزلية
وبعد أن تحسنت الأحوال قليلا وتيسر الانتقال خاصة في أم درمان القديمة ومساحات من شرقها وغربها بعد التطور الميداني بتراجع قوات الدعم السريع أمام الجيش السوداني، كشفت جولة ميدانية للجزيرة نت عن وجود حالات دفن في بعض المنازل الخالية والميادين والشوارع ومحطات المياه، مثلما اكتشفه عمال في محطة مياه أمبدة الحارة الثانية وكما حدث بالحارة الخامسة.
وكشف مواطن تحدث للجزيرة نت عن أن سكان المنطقة لاحظوا انبعاث روائح كريهة فاكتشفوا وجود جثة متحللة، مضيفا أن غالبية الجثث التي تُكتشف تعود لأشخاص من غير سكان الحي.
ورجح أن يكونوا من بعض ضحايا قوات الدعم السريع سواء من المقاتلين أو من بعض الذين تختطفهم تلك القوات وتخضعهم لعمليات استجواب وتحرٍّ، حيث شهدت المنطقة سابقا انتشارا لها واستغلالها بعض المنازل التي غادرها سكانها لبعض الأنشطة التي تتضمن إيواء جرحى في بعض الأحيان.
وأكد أنهم كانوا يضطرون كمواطنين لدفن بعض الجثث في موقع تحللها وأن أغلبها يصعب التعرف عليه ولا يتم العثور معها على أوراق ثبوتية لتحديد هويتها.
قلق قانوني
يبدي الخبير القانوني نبيل تاج السر قلقا كبيرا بشأن ترتيبات ما بعد الحرب حول المقابر المؤقتة، ويقول للجزيرة نت إن الذين دُفنوا بتلك المقابر -خاصة الذين قُتلوا بالرصاص أو بالقصف أو بأي سبب يتعلق بالحرب بغض النظر عن صفة الجهة الفاعلة- يجب أن يخضعوا لإجراءات حصر وتحديد الوقائع.
ويضيف أن هذا من صالح أهالي الضحايا خاصة مع الاتجاه العام داخليا وخارجيا لمحاسبة المتهمين، موضحا أنه من المرجح أن يطالب بعض الأهالي بنقل رفات ذويهم إلى المقابر المعروفة وفق الضوابط الشرعية والقانونية المعلومة.
وأشار تاج السر إلى إمكانية أن تتطلب الحاجة نقل بعض القبور المؤقتة من المدارس والأعيان المدنية والمنازل الخاصة بالمواطنين، مشيرا إلى أنه في السنوات الأخيرة سبق أن تكررت أعمال نبش ونقل جثث لمقابر أخرى.
ويضيف أن هناك قواعد صارمة بين النيابة والشرطة والطب الشرعي تنسق مثل هذه الأعمال، وأشار إلى جانب آخر يتعلق بالشق الخاص بالتكييف القانوني لبعض الحالات خاصة مع غياب الشرطة والنيابة “بسبب تعطيل قوات الدعم السريع أعمال تلك المؤسسات في المناطق البعيدة عن سيطرة الجيش والدولة”.
ويرى الخبير أنه مفهوم ومقبول أن تتم حالات دفن مواطنين معلومين بواسطة أحبابهم باعتبارهم شهداء وقتلى حرب، لكن هذا يجب أن لا يُسقط أو يُقلل من أهمية إخضاع الأمر للقانون ولو لاحقا.
ونوه إلى أن ظروف السيولة التي أفرزتها الحرب، قد تحتمِل -في جانب الدفن غير النظامي للجثث- حالات مثل عثور مواطنين على جثة في مكان لا سلطات فيه، إلا أنها قد تتضمن حالات أخرى لشبهات استغلال البعض لظرف الحرب لارتكاب بعض الأحداث.
وأكد تاج السر ضرورة أن تنتبه السلطات لتنوير المواطنين بحالات الدفن التي تمت خاصة للأشخاص غير المعلومين للسكان.