ماكرون وعقدة مسار الذاكرة.. الرئيس الأكثر تشييعا للشخصيات الوطنية في فرنسا
بات مؤكدا أن ينهي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عهدته الثانية بإنجاز لم يسبقه إليه أي رئيس فرنسي آخر على مدار الجمهورية الخامسة على الأقل، فهو ليس أصغر رئيس يدخل قصر الإليزيه فحسب، بل أكثرهم تكريما للرموز الوطنيين، وأكثرهم إحياء للذاكرة التاريخية والوطنية، حتى أصبحت هوايته المفضلة.
وفي انتقاد ساخر أطلقته الصحافة الفرنسية، فإن ماكرون يعد أكثر الرؤساء الفرنسيين تشييعا للشخصيات الوطنية في فرنسا إلى مثواهم الأخير. فبالمقارنة مع سلفيه، فإن نيكولا ساركوزي لم يترأس سوى 4 مواكب لتكريمات وطنية، فيما قاد فرانسوا هولاند 18 موكبا، بينما خص ماكرون منذ بداية عهدته الأولى حوالي 28 شخصية وطنية بتكريمات، بحسب ما وثقته صحيفة “لوموند”.
ولا ينافس ما كرون في سياسته التي بدأ التسويق لها حتى قبل فوزه بالرئاسة، سوى الرئيس الراحل شارل ديغول. ولكن ماكرون يريد الذهاب أبعد من ذلك بإرساء مشروعه الخاص بشأن المصالحة مع التاريخ، رغم العقبات المفخخة، خاصة العلاقات بالمستعمرات السابقة.
لهذا يشكل “مسار الذاكرة” محطة محورية في العهدة الثانية للرئيس الفرنسي إلى جانب دورة الألعاب الأولمبية المقررة في صائفة 2024.
مسار ماراثوني
كانت الشارة الأولى لهذا المسار قد أعطيت بالفعل في 2020 تحت شعار “المقاومة كشكل من الصمود” بإحياء ذكرى تكريم جون مولان أحد رموز المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني، واختتم في 21 فبراير/شباط 2024 بتشييع رفات الشيوعي المقاوم من أصل أرمني، ميساك مانوشيان وزوجته ميليني إلى “بانثيون”، مقبرة عظماء الأمة أو معبد الجمهورية.
بحسب الرئاسة الفرنسية، أعدم ميساك مانوشيان في موقع “كليريير دي فوزي”، مع 21 آخرين من رفاقه في المقاومة في 21 فبراير/شباط 1944. ووفق الرواية الرسمية، قضى هناك ألف من المقاومين والرهائن من بينهم شيوعيون وأجانب ويهود، بعدما مروا ضمن مجموعات يتألف كل منها من 4 أشخاص أمام فرقة إعدام مكونة من 30 جنديا ألمانيا.
في الثامن من أبريل/نيسان 2024 انطلق الجزء الثاني من المسار بشعار “التحرير نهضة بلد” بتكريم الرئيس الفرنسي لمقاومي هضبة “غليير” بإقليم “سافوا العليا” جنوب شرق فرنسا، وهو الإقليم الذي يحتفظ بذكرى تجمع 465 مقاوما من الداخل الفرنسي ومن أجانب، قبل سحق حوالي ثلثيهم على يد الجيش الألماني ومليشيا نظام فيشي آواخر مارس/آذار من العام 1944.
بعدها توجه ماكرون لمنطقة إيزيو لإحياء ذكرى ترحيل 44 طفلا يهوديا من مدينة ليون في السادس من أبريل/نيسان 1944 من قبل الشرطة السرية الألمانية (ألغستابو) إلى معتقل “أوشفيتز” النازي ببولندا.
تضمن شهر أبريل/نيسان أيضا إحياء ماكرون لذكرى وحدة المقاومة في فيركور (جنوب شرق)، في مبادرة هي الأولى. ويضاف إلى تلك الفعاليات الاحتفاء بذكرى المقاومة بمدينة مارسيليا يوم الثامن من مايو/أيار الذي يمثل نهاية الحرب العالمية الثانية، تزامنا مع وصول الشعلة الأولمبية إلى المدينة.
وتستمر احتفالات الذكرى الـ80 لإنزال نورماندي لمدة 3 أيام، تبدأ في الخامس من يونيو/حزيران بتكريم المظليين في إقليم بروتانيا، قبل إحياء ذكرى الإنزال في اليوم التالي بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن عشية انتخابات البرلمان الأوروبي.
وفي العاشر من الشهر نفسه يشارك ماكرون في تكريم ضحايا الانتهاكات الألمانية في مدينتي “تول” و”أورادور سور غلان” جنوب غرب فرنسا.
وتتضمن التكريمات إحياء ذكرى السياسي المقاوم ووزير الداخلية السابق جورج مانديل، الذي اغتاله ألغستابو في السابع من يوليو/تموز 1944، وبمرور 80 عاما على إنزال بروفانس منتصف أغسطس/آب وتحرير باريس في 25 من الشهر نفسه ثم ستراسبورغ (في الشرق) في 23 نوفمبر/تشرين الثاني.
ويمتد “مسار الذاكرة” إلى مرحلة ثالثة مطلع عام 2025 حيث من المقرر أن يحيي ماكرون ذكرى “الاعتراف بفرنسا في محفل الأمم”، وفق ما أعلن الإليزيه.
توسيع دائرة التكريمات
أحدث ماكرون مفهوما موسعا للتكريمات الوطنية التي لم تعد حكرا على العسكريين الذين قتلوا في سبيل الجمهورية، بل شمل أيضا فنانين مثل جون بول بلمندو والرسام بيير سولاج والكاتبة ماريس كوندي.
ويقول مدير المركز العربي للدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ للجزيرة نت إن “رد الاعتبار ورفع الظلم والتجاهل الذي تعرض له عديد الشخصيات يعد من الأعمال الوطنية والأخلاقية والحضارية، ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بارتياح كبير لمثل هذه التكريمات”.
وفي تعليق على هذه السياسة، نقلت صحيفة “لوموند” عن مستشار للرئيس الفرنسي قوله إن “التاريخ لم يعد يكتب من المعارك، بل من خلال الصحفيين والفنانين والرياضيين وغيرهم”.
ومن بين التبريرات التي تسوقها الدوائر المحيطة بالرئيس الفرنسي أن التكريمات تمثل أداة لتشكيل شيء مشترك داخل الأمة الفرنسية في مجابهة محاولات الانفصال وحل مشكل الهوية.
يبرز ذلك في موكب تشييع المقاوم الشيوعي ميساك مانوشيان والقاضية اليهودية سيمون فيل والمغنية من أصول أميركية جوزيف بيكر، إلى البانثيون. كما تبرز في إشادة ماكرون بالمشارب المتنوعة للمقاومين من “المدرسين والقرويين والوجهاء واليهود كما الكاثوليك والشيوعيين والاشتراكيين ومن مناصري ديغول والضباط الفرنسيين والأجانب الذين اتحدوا في مواجهة النازية”.
ورغم محاولات تأكيد وحدة الأمة وإعلاء عنصر التنوع، فإن هذه السياسة لا تلقى الحماسة ذاتها لدى السياسيين والمحللين.
ولفت الشيخ للجزيرة نت إلى “أن الارتباط الشديد بالتاريخ والهوس بالبانثيون يستدعي تفسيرا، قد ينطوي من جهة على رغبة في تجاوز مشاكل الواقع وأداء الحكومة المتعثر، ومن جهة أخرى مجابهة المنغلقين على الهوية الفرنسية. فماكرون يرى أن الفرنسي أو الفرنسية هي حالة روح قبل أي شيء آخر”.
إستراتيجية “الريمورا”
لم يتأخر المتحفظون في توجيه نقدهم إلى “مسار الذاكرة”، فقد كتب المحلل السياسي نيكولا بافيريز بصحيفة “لوبوان” منتقدا نهج ماكرون في “استغلال الذاكرة وتحويلها لتصبح سياسة”، مشبها مقاربة الرئيس بإستراتيجية “سمكة الريمورا” التي تتطفل على الحيتان الكبيرة، مضيفا “هو يلجأ إلى ظل الشخصيات المعروفة في محاولة لإثبات وجوده”.
ولم تستبعد صحيفة “لوفيغارو” في تحليل لها، وجود رابط وثيق بين الأجندتين التذكارية والسياسية، لمجيء الانتخابات البرلمانية مباشرة بعد ذكرى النورماندي التي ستشهد إلقاء كلمة لماكرون في اجتماع لم يحدد بعد ولكنه يشير إلى عودة الحرب إلى أوروبا وهي من المحاور الأساسية التي يركز عليها المعسكر الرئاسي في الحملة الانتخابية.
ولم يتردد ماكرون في توجيه رسائل سياسية مبطنة مستفيدا من “مسار الذاكرة”، ومذكرا في أكثر من مرة بشعار المقاومين “العيش بحرية أو الموت”، في تلميح إلى الغزو الروسي لأوكرانيا. وقال صراحة في خطاباته “لا بد من أن تتوقف هذه الحرب”.
ويقول الأكاديمي جان جاريج إن ماكرون يسعى باعتماده على “مسار الذاكرة” الانتهازي لإضفاء الشرعية لنفسه وسد العجز. لكن الأمر من جانب آخر قد يمثل “اعترافا بالهشاشة”، مثلما وصف ذلك الخبير والمستشار بمؤسسة جان جوريس، ماتيو سوكيار الذي يرى أن “الإغراق في التكريم يقلل من قيمته ويرهق الرأي العام”.
ومن الانتقادات التي وجهت لماكرون أن التكريمات التي شملت الأرمن والشيوعيين والمقاتلين الأجانب تأتي مناقضة للسياسة الحكومية على أرض الواقع، وتحديدا من خلال تشديدها لسياسات الهجرة والتجنيس للأجانب الذي يعملون لسنوات طويلة في فرنسا ويسهمون في إنعاش الحركة الاقتصادية.
كما لا يعكس “مسار الذاكرة” القدر نفسه لرغبة المعسكر الرئاسي في المصالحة التاريخية تجاه ملفات حساسة ترتبط بمقاتلي المستعمرات الذين شاركوا في تحرير فرنسا، ولا الجرأة نفسها في كشف تواطؤ حكومة فيشي مع الألمان والحديث بوضوح عن السجل الفرنسي المظلم في تلك المستعمرات.
ماذا عن المستعمرات؟
منذ توليه الرئاسة أطلق الرئيس الفرنسي 3 مشاريع للذاكرة، هي الحرب الأهلية في رواندا واستعمار الكاميرون وحرب الجزائر.
وقال المؤرخ الفرنسي باسكال بلانشار في هذا الصدد “قبل ماكرون كان هناك حوالي 10 سنوات من الفراغ في الذاكرة. لم يبادر سلفاه بوضع أي مشروع تذكاري قوي”، مضيفا “المسألة الاستعمارية هي جيله وإذا لم يفعل شيئا في هذه القضية، فسيكون قد فشل وهو يعرف ذلك. أمامه 3 سنوات لإحضار الرماة السنغاليين إلى البانثيون”، في إشارة إلى الفوج السنغالي الذي شارك في حروب فرنسا في الحربين العالميتين وفي المستعمرات.
ورغم مبادرة ماكرون مشاركة نظيره المالي في موكب تكريم “القوة السوداء” بمدينة ريمز في ولايته الأولى عام 2018، فإن الخطوات لا تزال محتشمة بحق مئات الآلاف من مقاتلي المستعمرات الذين شاركوا في حروب لا تعنيهم.
وتمثل معركة “فردان” الشهيرة شمال شرقي فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى نقطة سوداء في تعاطي باريس مع سجلها الحربي. فلا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد جنود المستعمرات الأفارقة، لكن مصادر تاريخية تقدر الأعداد بأكثر من نصف مليون واجهوا جيشا ألمانيا قويا، وكان لهم دور محوري في تجنيب فرنسا الانهيار في أطول معركة شهدتها الحرب امتدت لأكثر من 300 يوم.
ويقول أستاذ التاريخ السياسي المعاصر بجامعة منوبة في تونس خالد عبيد، للجزيرة نت “إن الحديث عن الذاكرة في فرنسا غالبا ما اقترن بالجدل والتجاذبات السياسية، خاصة ما يرتبط بمستعمراتها السابقة. وهذا الملف ظل معضلة دائما، لهذا كان التعامل معه يتسم بالحذر الشديد ويخضع في الغالب لطبيعة العلاقات بين باريس ومستعمراتها السابقة”.
عقبة الجزائر
رغم التركيز المكثف على الذاكرة فإن مسار المصالحة الذي أُطلق بشأن ملف الجزائر المعقد، عبر “لجنة الذاكرة المشتركة” بين الجزائر وباريس في أغسطس/آب 2022، لم يصل إلى مستوى الاعتذار الرسمي عن حقبة الاستعمار.
كانت اللجنة التي تضم مؤرخين من الجانبين والمكلفة بالبحث في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر من عام 1832 وحتى العام 1962، قد عقدت 3 اجتماعات سمحت في أفضل إنجازاتها بتسهيلات أكبر للوصول إلى الأرشيف الفرنسي السري المرتبط بالجزائر، ولكنها لم تفض إلى اختراق فعلي في مجال المصالحة والإقرار بالمسؤولية.
وتطالب الجزائر باستكمال تسليم رفات وجماجم المقاومين الجزائريين الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال الفرنسي والحقائق كاملة عن الإخفاء القسري للعديد من الجزائريين وإثارة ملف استخدام الجيش الفرنسي لأسلحة محرمة ضد المقاومة الجزائرية والتجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، والمطالبة باستعادة مقتنيات وممتلكات تعود لأعيان وقادة الثورات والمقاومين وفي مقدمتها ممتلكات الأمير عبد القادر.
وتتحجج باريس بغياب قوانين لديها تسمح بإعادة تلك الممتلكات التي تصنفها في خانة الهدايا. بينما أمكن في جانب آخر إحراز تقدم رمزي في فبراير/شباط 2024 يسمح باسترجاع مليوني وثيقة، إضافة إلى كل الأرشيف المرتبط بالفترة العثمانية ما قبل 1832، وفق ما أعلنه الجانب الجزائري.
وعلاوة على عقبات التاريخ، بما في ذلك ملف “الحركيين” الذين حاربوا في صفوف فرنسا ضد بلادهم، تصطدم جهود المصالحة بتوتر يظهر بشكل متكرر بين الدولتين بسبب انتقادات تصدر عن سياسيين فرنسيين ومن أعضاء بحزب ماكرون، بشأن أوضاع حقوق الإنسان في الجزائر وهو ما يثير غضب السلطات الجزائرية.
ورغم الخطوات المعلنة من باريس بشأن “مسار الذاكرة”، فإن الخبير خالد عبيد لا يتوقع في حديثه مع الجزيرة نت، اعتذارا فرنسيا كاملا في نهاية المطاف عن جرائم الاستعمار.
ويضيف في تحليله “صحيح كانت هناك محاولات محدودة من الرئيس ماكرون لكن من غير المتوقع الذهاب إلى الحد الأقصى في ذلك. السبب الأول يعود إلى نفوذ اللوبيات في الداخل الفرنسي. والأمر الثاني أن الاعتراف بفظاعات الاستعمار قد يهدد بنسف صورة فرنسا التي يجري تسويقها عالميا كحاملة لواء الحريات وحقوق الإنسان”.