منير شفيق يروي قصة النضال الفلسطيني من عرفات إلى السنوار
منير شفيق مناضل ومفكر وكاتب فلسطيني عايش مختلف مراحل القضية الفلسطينية من النكبة إلى اليوم، ومن مختلف المواقع التي مر بها كان شاهدا على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأحد أهم الفاعلين في الساحة بالمقاومة والنضال السياسي حينا وبالقلم والرأي أحيانا أخرى.
في بودكاست البلاد على منصة أثير، تحدث المفكر التسعيني -صاحب سيرة من جمر إلى جمر- خلال حلقة هي الأطول في تاريخ البودكاست العربي عن مختلف فترات حياته المثيرة كاشفا عن بعض أسرار أكثر من 70 عاما من النضال الفلسطيني.
الاقتلاع من فلسطين جمرة مؤلمة في ذكريات الطفولة
البداية كانت من حي القطمون غربي القدس حيث نشأ منير شفيق وعاش جزءا من طفولته ومن حيث هُجّر مع عائلته عام 1948، فلم يُخف الحنين إلى ذكريات الطفولة والألم مما لحقه وعائلته جراء التهجير إلى الأردن في مرحلة أولى، ثم إلى القدس الشرقية لاحقا.
وعاد شفيق إلى تفاصيل تلك الفترة في فلسطين وخصائص الحياة فيها قبل قيام دولة الكيان الصهيوني سنة 1948.
وتوقف ضيف بودكاست البلاد عند ما عايشه من جرائم العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين العزل على غرار تفجير فندق سميراميس في يناير/كانون الثاني 1948، مفندا حجة “لو أننا قبلنا بقرار التقسيم لكان أفضل لنا” التي أشاعها بعض الفلسطينيين والعرب حينها.
وذكّر المفكر الفلسطيني بأن قرار التقسيم منح لإسرائيل 54% من الأراضي الفلسطينية مقابل 46% للفلسطينيين.
وأشار شفيق إلى التفاوت من حيث نوعية الأسلحة والعتاد بين الجيوش العربية وجيش الهاغاناه الصهيوني، مرجحا أن يكون عدد جنود الدول العربية السبع التي دخلت للدفاع عن فلسطين وقتها في حدود 23 ألف جندي، بينما ضم جيش الهاغاناه نحو 67 ألف جندي مدعومين بـ100 ألف جندي بريطاني.
وخلص ضيف بودكاست البلاد إلى أن “فلسطين مُنحت لإسرائيل على طبق من ذهب من قبل البريطانيين بعد اقتلاع الفلسطينيين منها”.
هل باع الفلسطينيون أرضهم؟
من جهة أخرى، تطرق المفكر الفلسطيني التسعيني إلى الإشاعة الرائجة بخصوص بيع الفلسطينيين أراضيهم، مؤكدا تمسك الفلسطينيين ببيوتهم إلى أن “اقتُلعوا منها بقوة السلاح عن طريق العصابات الصهيونية”.
ولم تخل حلقة البلاد من قصص المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في تلك الفترة.
وعاد ضيف منصة أثير إلى قصة القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني حينما لم ينجح في إقناع قادة اللجنة العسكرية لفلسطين -التابعة لجامعة الدول العربية- بجمع السلاح للفلسطينيين، مرجحا أن هذه الحادثة دفعت الحسيني للقيام بعملية القسطل غير المتكافئة بعد إحساسه بالقهر والعجز، وواصفا ما أقدم عليه بالعملية الاستشهادية.
ومن كواليس السياسة العربية التي كان شاهدا عليها خلال مرحلة شبابه الأولى، ذكر منير شفيق حضوره في مؤتمرين مهمين إبان النكبة، حيث انتظم أحدهما في أريحا الفلسطينية والثاني في عمّان الأردنية، والذي تم بمقتضاه ضم الضفة الغربية للإدارة الأردنية، مشيرا إلى أنه كان على غرار والده مع قرار الضم.
ومن المحطات المهمة التي أسهمت في التكوين السياسي لضيف بودكاست البلاد التحاقه بالمدرسة الرشيدية بالقدس، التي عادت إليها عائلة شفيق بعد عرقلة استقرار والده في الأردن من قبل البريطانيين.
وقد كانت مدرسة الرشيدية أهم فضاءات النقاش والفعل السياسيين بالنسبة إلى الجيل الأول بعد النكبة، حسب قوله.
من الحزب الشيوعي الأردني إلى حركة فتح
واستذكر منير شفيق بداياته مع النضال السياسي سنة 1952 ومساهمة والده المحامي اليساري في تشكل وعيه الفكري، ثم في انتسابه إلى الحزب الشيوعي الأردني.
وفي السياق ذاته، شدد شفيق على أن الشعب الفلسطيني -بمختلف مكوناته السياسية والشعبية- كان مقاوما للاحتلال الصهيوني بما توفر له من إمكانيات نضالية، مبينا خلفيات بعض النقاط الخلافية في مواقف الأحزاب حينها، على غرار موقف الحزب الشيوعي الموافق على قرار التقسيم.
ومن المراحل المهمة في حياته ذكر منير شفيق مرحلة سجنه في الأردن لمدة أعوام في الفترة بين 1957 و1965، وما تعرض له من تنكيل مع رفاقه من المساجين الشيوعيين.
وذكر ضيف بودكاست البلاد بعض الأحداث والخلافات داخل السجن التي أثرت في رؤيته السياسية وكانت سببا في خلع جبة الفكر الشيوعي ثم الخروج من الحزب بعيد مغادرة السجن.
في عام 1968 غادر شفيق الأردن مسافرا إلى بيروت، حيث تسكن شقيقته وزوجها ناجي علوش المناضل في حركة فتح، الذي كان له دور في طلب الشيوعي السابق الالتحاق بالحركة بعد اقتناعه بفكرها ومنطلقاتها، حسب تعبيره.
وأشار إلى التحفظ الذي حدث في البداية على اسمه من قبل قيادة فتح بسبب انتمائه السابق، إلى أن تم التواصل معه بعد سنة للتفرغ في الحركة.
تأثير نكسة 1967 وأحداث أيلول الأسود في الوضع العربي
وردا على سؤال عن مدى تأثير نكسة عام 1967 وأحداث (سبتمبر) أيلول الأسود عام 1970 على الشارع العربي، وصف شفيق النكسة بالزلزال الذي هز الوضع العربي والكارثة الكبيرة التي أثرت في مستقبل المقاومة العربية لإسرائيل، لكنه لا يتفق مع جزء من النخب اليسارية التي حمّلت الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر المسؤولية، و”هوّلت من وقع الهزيمة وفشل الجيش المصري” بالعودة إلى سياقات المرحلة وموازين القوى العسكرية بين إسرائيل ومصر حينها، وفقه.
من جهة أخرى، أطنب شفيق في الحديث عن عبد الناصر معتبرا إياه من “كبار المصلحين ومحررا عربيا مهمًا، نظرا لتمسكه بمبادئ مقاومة إسرائيل رغم التفاوت في موازين القوى”.
وكشف المفكر الفلسطيني عن سبب اختيار عنوان “جمر إلى جمر” لمذكراته، قائلا إن حياته مليئة بالنكسات والتحديات بسبب انتمائه إلى حركة التحرر المتشبثة بالمقاومة المسلحة ورفض التنازل لأميركا المعادية لحركات مقاومة الاحتلال خيارين أساسيين لتحرير فلسطين، بحسبه.
أما بخصوص أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، فأوضح شفيق خلفيات مواقف مختلف الفصائل الفلسطينية وارتباطها بسياسات بعض الدول العربية، وأشار إلى أن موقف الزعيم ياسر عرفات الأقرب إلى التهدئة كان منسجما مع خيارات مصر -بزعامة عبد الناصر- في حين وجدت مواقف سوريا والعراق -التي كانت تحرض على الصدام- صداها في مواقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
الخلاف مع قيادة حركة فتح
وقال منير شفيق أنه منذ عام 1972 بدأ يشك في حقيقة موقف حركة فتح من أحداث أيلول الأسود، مرجحا أن الموقف المعلن لم يكن الموقف الحقيقي، وأن ياسر عرفات كان راغبا في اندلاع مواجهة مع الأردن خدمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي سترفع بعد الأحداث شعار الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين.
وأوضح ضيف بودكاست البلاد أنه وصل إلى هذه القناعة بعد اكتشاف الالتحام والتقاطع بين نايف حواتمة زعيم الجبهة الوطنية لتحرير فلسطين، الذي كان يرفع شعارات تحريضية أدت بشكل رئيسي إلى المواجهة العسكرية على غرار ” كل السلطة للمقاومة”، وقيادات في فتح، مرجحا أن حواتمة كان مدفوعا من فتح ومحميا منها.
في سياق متصل، ذكر المفكر الفلسطيني أنه منذ أحداث أيلول الأسود وما أدت إليه من نتائج لم يكن موافقا عليها -على غرار تسليم السلاح والخروج من الأردن- بدأ مرحلة جديدة من العلاقة مع قيادة حركة فتح وبعض التيارات المعارضة للقيادة داخلها، وقال شفيق إنه منذ تلك الفترة انطلق في العمل على تشكيل تيار جديد داخل حركة فتح “متمسك بثوابت فتح الرئيسية التي عبّر عنها ميثاقا منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وعام 1968”.
وجوابا عن سؤال بخصوص مآل ما كان يكتبه ضيف بودكاست من كتب وكراسات وتأثيرها في الفلسطينيين، قال شفيق إن كتبه الصادرة بين سنوات 1970 و1973 كانت تروج في السجون واعتبرت من ضمن أكبر المصادر الثقافية للمساجين الفلسطينيين، وكشف عن دوره المحوري في إقناع قيادة فتح بتطوير جامعتي النجاح وبيرزيت الفلسطينيتين.
ومن الزيارات الخارجية التي تحدث عنها زيارة وفد من فتح إلى الهند بدعوة من حزب الجبهة الوطنية الشيوعي في الهند، وقال إنه تفاجأ بحجم تعاطف الجماهير الهندية مع القضية الفلسطينية، وهو ما جعله يعتقد أنه “لو تمسك الفلسطينيون بالعمل مع الجماهير الإسلامية في الهند لجعلوا أميركا تركع أمامهم”.
وتحدث أيضا عن زيارته لإيطاليا ولقائه مع أمين سر الحزب الشيوعي الإيطالي لويجي لونجو، الذي لخص له قصة فلسطين مع الاحتلال الإسرائيلي في حكاية والدته التي عادت إلى منزلها في حي القطمون حيث وجدت عائلة يهودية في بيتهم هناك وقد استحوذت على المنزل بما فيه من أثاث.
وحول خلافه اللاحق مع حركة فتح، ذكر شفيق أهم النقاط التي اختلف فيها مع قيادة فتح، انطلاقا من خيار الدولة الديمقراطية التي تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود في دولة علمانية ديمقراطية، وصولا إلى ما يعرف ببرنامج النقاط العشرة وتوجُه قيادة منظمة التحرير نحو التسوية.
وذكر أنه نظم محاضرة في مقر الجامعة العربية للرد على نايف حواتمة الذي كان رأس الحربة في الدفاع عن برنامج النقاط العشرة، إلا أنه تفاجأ في مرحلة أولى بمحاولات ثنيه عن تقديم المحاضرة، ثم بإطلاق النار داخل القاعة لفض الاجتماع في مرة أولى من قبل عنصر ينتمي إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ثم في مرة ثانية من قبل عنصر من فتح، بحسبه.
ومن الأحداث المفصلية التي عمقت خلاف منير شفيق مع قيادة فتح ذكر المفكر الفلسطيني حادثة رفضه عزل حزب الكتائب اللبناني عام 1975، الذي أدى إلى انفصاله عن حلفائه في فتح على غرار صهره علوش، ثم إلى تشكل تيار جديد داخل فتح من دون الانشقاق عنها، وإنما بهدف تشكيل قيادة جديدة متمسكة بثوابت التأسيس الأولى، وفق ضيف بودكاست البلاد.
وعن ياسر عرفات وسبب قبوله بتنازلات أوسلو، ذكر منير شفيق أن “أبو عمار كان شخصية فلسطينية وطنية ومناضلة، غير أنه كان صاحب طموح فردي عال”، معتقدا في قدرته على رئاسة الشعب الفلسطيني، وأضاف أن “السجاد الأحمر كان ساحرا له” أي عرفات.
وقال شفيق “إن الزعيم الفلسطيني الراحل كان يرى في تقديم التنازلات أحد سبل الوصول إلى رئاسة فلسطين”.
وتابع منير شفيق تعداده لنقاط خلافه مع قيادة فتح، متوقفا عند الاختلاف إزاء الموقف من الثورة الإسلامية في إيران، وأشار إلى أن قيام الثورة الإيرانية حينها عوّض ما اعتبرها كارثة اتفاقية كامب ديفيد بين مصر بقيادة أنور السادات وإسرائيل، خاصة في ظل ما أعلنته الثورة الإيرانية من عداء لأميركا وإسرائيل، بحسبه.
وأضاف شفيق أن سر نهضة إيران -والتيار الشيعي عموما- يكمن في موقفها الواضح الذي يرى أن “أميركا الشيطان الأكبر وإسرائيل سرطان يجب استئصاله من المنطقة وعدم الدخول في مساومات مع الغرب”، وأن لا مستقبل للحركات السنية إن لم تتبن الموقف نفسه.
سبب اعتناق الإسلام
وفي جواب عن سبب تحوله إلى الإسلام، ذكر منير شفيق أنه كان في تواصل وتشاور مع الحركة الإسلامية منذ أواخر السبعينيات، حين صار مقتنعا بأن “مرحلة المقاومة العلمانية والحداثية والقومية قد انتهت أو في طريقها إلى النزول” وأن المستقبل “للمقاومة بمرجعية إسلامية”.
وقال منير شفيق إن هذه القناعة كانت سببا في تحوله إلى الإسلام عام 1981، بالإضافة إلى أنه اختار أن يكون في صف “خط الجماهير الفلسطينية والعربية” التي كانت جلها تنتمي إلى الإسلام.
وكشف شفيق عما لاقاه من معارضة وانتقادات لاذعة داخل حركة فتح بسبب اعتناقه الإسلام حينها.
من أوسلو إلى طوفان أقصى
وبالتطرق إلى اتفاقية أوسلو عام 1993 وموقفه منها، شدد ضيف بودكاست البلاد على أنها كانت سبب إنهاء علاقته بحركة فتح، وقال إنها تترجم القطيعة والتعارض بين قيادة فتح وثوابت الحركة ومنطلقاتها، واعتبر أن ضياع الضفة الغربية واستفحال الاستيطان فيها من نتائج اتفاقية أوسلو، بالإضافة إلى أنها أضفت شرعية على دولة الاحتلال.
وبالعودة إلى تحليل الوضع العالمي بداية التسعينيات بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، أشار إلى كتاب أصدره حينها بعنوان “النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة”، إذ خالف فيه القراءات السائدة بشأن سيطرة أميركا على العالم.
وذكر شفيق أن الاعتقاد في سيطرة أميركا على العالم جعل إسرائيل تطمئن لوضعها وتنخرط في مسار استهلاكي، كما أسهم في انجرار قادتها إلى التجارة والفساد المالي، وهو ما تسبب في تتالي هزائمها العسكرية منذ حرب لبنان عام 2006.
وبالوصول إلى طوفان الأقصى، قال المفكر الفلسطيني إن الحدث مثّل زلزالا في إسرائيل، وجعل قادتها يراجعون خياراتهم السابقة بالتوجه نحو الجدية أكثر في بناء الجيش والمجتمع، مرجحا أن هذه الجهود لن تنجح وأن نهاية الكيان الصهيوني صارت وشيكة بسبب ما يعيشه المجتمع الإسرائيلي من شيخوخة وترهل، بحسبه.
وبخصوص المجازر الإسرائيلية في غزة، قال شفيق إن “هذه المجازر لا يمكن تبريرها بأنها رد فعل على عملية طوفان الأقصى، وإن كان هدف إسرائيل منها ترهيب الفلسطينيين فإنها ستفشل”، وأضاف أن هذه المجازر سترجع بالويلات على الكيان الصهيوني وعلى سمعته دوليا، وحتى على وجوده، وأنه لا يمكن لإسرائيل أن تكرر هذه المجزرة في المستقبل.
واستشرافا لمرحلة ما بعد الحرب، قال شفيق إن الحل يكمن في مواصلة المقاومة، مستبعدا التوصل إلى حل سياسي مع إسرائيل في المستقبل القريب باعتبار “تصميم الكيان الصهيوني على تهجير الفلسطينيين من كل فلسطين ورفضه كل الحلول السياسية المطروحة عليه لتحقيق السلام مع الفلسطينيين”.
وفي النهاية، اعترف المفكر الفلسطيني منير شفيق بأن الخطأ الأكبر خلال مسيرته الطويلة كان مع والديه وإخوته بسبب الأسلوب الذي سلكه في النضال، وما نتج عنه من اعتقالات لفترات طويلة، وأيضا مع زوجته وأبنائه حيث كان حضورهم في حياته هامشيا واهتمامه بهم منقوصا.
وعن حلمه الحالي وهو في سن الـ90، قال شفيق ‘لا أحلم إلا بأن أرى نصر المقاومة وقيادتها وشعبها في قطاع غزة”.