لهذه الأسباب يعجز الصومال عن القضاء على حركة الشباب
ثلاثة عقود مرت على الصومال وهو عالق في دوامة من التحديات تقف عائقا بينه وبين القدرة على النهوض مجددا وطي صفحة الانهيار الممتد.
وضمن حالة السيولة التي تعانيها البلاد تبرز حركة الشباب المجاهدين كأحد أخطر مهددات الدولة الصومالية، حيث تمكنت المجموعة -التي نشأت منتصف العقد الأول من هذا القرن- من الصمود في مواجهة المحاولات المستمرة التي بذلتها الحكومات الصومالية المتعاقبة وحلفاؤها لكتابة كلمة النهاية في حكايتها.
هذه الأزمة التي تطاولت قرابة عقدين من الزمان تطرح الكثير من التساؤلات حول أسباب الفشل الحكومي، وتلقي بالأضواء الكاشفة على جزء من المأساة الصومالية التي تتشابك فيها العوامل الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية التي أفسحت المجال للشباب لا لتهديد الصومال وحده بل للتحول إلى خطر إقليمي داهم.
هشاشة الدولة
عند البحث عن أسباب عجز مقديشو عن القضاء على حركة الشباب لا بد من العودة إلى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تلك الفترة التي مثّلت رأس المنحدر الذي تدحرج منه الصومال مع انهيار مؤسسات الدولة وغرق البلاد في حرب أهلية وانقسامات حادة لم تستطع التخلص من آثارها حتى الآن.
وبينما شهد العالم بين عامي 2008 و2024 الكثير من التغيرات التي صعدت بدول وهبطت بأخرى، ظل الصومال طوال هذه الفترة يتأرجح بين أدنى مرتبتين على مؤشر الهشاشة العالمي الصادر عن مؤسسة “صندوق السلام العالمي” الأميركية غير الربحية.
وتتسم الدولة الهشة بضعف الكفاءة في القيام بوظائفها الأساسية في مجالات مختلفة كالأمن واحتكار القوة الشرعية، أو إدارة الموارد المالية بصورة رشيدة بجانب القدرة على إنفاذ القانون.
قطاع الأمن
تنعكس هذه الهشاشة في القطاع الأمني في الصومال الذي يواجه العديد من التحديات التي تحول بينه وبين أداء المهام المنوطة به بشكل كامل، سواء في مواجهة حركة الشباب أو في بسط الأمن على امتداد أراضي البلاد.
ولعل أهم مظهر لضعف الأجهزة الأمنية والعسكرية الصومالية يتجسد في الحاجة الدائمة إلى وجود البعثة الأفريقية المساندة للجيش الصومالي في مواجهة الحركة منذ 2007، حيث مارست تلك البعثة بتسمياتها المختلفة وظائف متعلقة بدعم هياكل الحكومة الصومالية وتدريب قوات الأمن والمساعدة في خلق بيئة آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية.
وشهد الصومال جهودا دؤوبة خلال السنوات الماضية في سبيل بناء وتحصين قطاعه الأمني بالتعاون مع الدول الحليفة وعلى رأسها تركيا، غير أن النتائج لا تزال دون المأمول حيث طلبت مقديشو من الاتحاد الأفريقي في أغسطس/آب الماضي انتداب بعثة جديدة تبدأ العمل مطلع العام المقبل مع انتهاء ولاية البعثة الحالية.
ويرى العديد من المراقبين أن الوقت لا يزال مبكرا لبلوغ الصومال مرحلة الاعتماد الكامل على النفس، وفي هذا السياق صدرت تصريحات عن مجموعة الأزمات الدولية نقلتها صحيفة “إيست أفريكان” في منتصف يوليو/تموز الماضي بأن “من المحتمل ألّا تستغني مقديشو عن مساعدة القوات الأجنبية لها في العامين المقبلين على الأقل خشية الانتكاسة الأمنية”.
الفساد يناصر الشباب
مظهر آخر من مظاهر هشاشة المؤسسات في الصومال يتجلى في عجز السلطات الحكومية عن مكافحة ظاهرة الفساد المتفشي في دوائر الدولة، والذي تكشفه بوضوح مؤشرات “مؤسسة الشفافية العالمية” حيث تتذيل مقديشو دول العالم ضمن درجات هذا التصنيف السنوي منذ أكثر من عقد من الزمان.
هذا الواقع يلقي بظلال كثيفة على قدرة مقديشو على القضاء على حركة الشباب، حيث تمهد الروابط القبلية والسياسية لأصحابها الوصول إلى مناصب عسكرية وأمنية حساسة، ما يؤثر سلبا على قدرات المؤسسات المعنية سواء على مستوى التخطيط أو على المستوى الميداني، نتيجة تجاهل معايير كالكفاءة والمهنية والقدرة.
بجانب ما سبق لا يؤدي الفساد إلى توفير بيئة خصبة لاختراق حركة الشباب لأجهزة الدولة المنوط بها مكافحتها فحسب، بل يقود أيضا إلى هز الثقة في إمكانية اعتماد القوى الدولية الداعمة للصومال على مؤسساته الأمنية.
وقد أشار تقرير صادر في فبراير/شباط 2013 عن المجموعة الأممية لمراقبة الصومال وإريتريا إلى أن الأسلحة التي حصلت عليها الحكومة الصومالية كانت تُباع إلى عناصر حركة الشباب الصومالية، واصفا ما حدث بأنه “انتهاكات عالية المستوى ومنهجية في إدارة وتوزيع الأسلحة والذخيرة”.
وفي دلالة على استمرار ممارسات الفساد أشار تقرير صادر عن “مركز مكافحة الإرهاب” التابع لجامعة “ويست بوينت” في أبريل/نيسان 2024 إلى “مستويات الفساد المرتفعة للغاية” في المؤسسة العسكرية كأحد العوامل المؤدية إلى انخفاض الروح المعنوية لمقاتلي الجيش الصومالي، في حين ترددت أنباء في نفس الفترة عن بيع أسلحة وإمدادات لوجستية تابعة لوحدات في نفس المؤسسة بأسواق مقديشو.
المنافسات السياسية
من خلال تجربته كعضو في فريق الباحثين في شبكة فعالية عمليات السلام الذي أجرى تقييما لبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال عام 2018، يرصد مدير “برنامج الدراسات الأمنية” التابع لجامعة “جورج واشنطن” البروفيسور باول ويليامز مجموعة مختلفة من الصراعات التي تسم المناطق التي تنشط فيها حركة الشباب.
فمنذ انهيار الحكومة المركزية عام 1991 شهد الصومال صراعات داخلية مستمرة للسيطرة على السلطة، اشتد أوارها بشكل كبير منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نتيجة تدفق موارد خارجية كثيرة إلى مشروع بناء الدولة في البلاد.
وتمحورت هذه الصراعات في منطقة عمليات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال حول السيطرة على الحكومة الاتحادية الانتقالية، ثم حكومة الصومال الاتحادية، لتمتد لاحقا إلى الإدارات الإقليمية الناشئة أو الولايات الأعضاء في الاتحاد.
تداخلت هذه الصراعات السياسية مع البعد القبلي النافذ في الصومال من خلال التنافس على السلطة النسبية والنفوذ بين العشائر الصومالية العديدة، والعشائر الفرعية، والعشائر فرعية الفرعية، إذ مع الفراغ الذي خلقه غياب الدولة تحولت هذه الكيانات إلى الجهات التي توفر الأمن والعدالة وفرص العمل.
وأوضحت تقارير صادرة عن “مشروع قاعدة بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة” عام 2023 كيف أدى الصراع السياسي الداخلي إلى تقويض حملة مكافحة التمرد التي أطلقتها الحكومة الصومالية في النصف الأول من العام المذكور، وكيف فتحت المنافسات القبلية الباب لتواصل حركة الشباب مع بعض العشائر الفرعية وكسب ولائها.
هذه المنافسات المستمرة بأبعادها المختلفة أدت إلى تعميق الانقسامات السياسية، مضعفة قدرة مقديشو على تشكيل بنية أمنية وطنية متماسكة توضح هياكل القوة والعلاقة بين الحكومة الاتحادية والولايات الفدرالية في مواجهة حركة الشباب، وفقاً لدراسة صادرة عن “مركز مكافحة الإرهاب” التابع لجامعة “ويست بوينت”.
الانبعاث المتجدد للحركة
رغم تلقيها موجات من الضربات الموجعة أعوام 2006-2007 و2011-2016 و2022-2023، فإن حركة الشباب كانت قادرة على امتصاص الصدمات واستعادة حيويتها والاستمرار في تشكيل أحد أخطر المهددات الأمنية لا في الصومال وحده ولكن على مستوى الإقليم أيضا.
وفي محاولة للبحث عن الإجابة عن سؤال “كيف استطاعت الحركة فعل ذلك؟” يحدد أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة النرويجية للعلوم الحياتية والخبير في الحركات الإسلامية في القرن الأفريقي البروفيسور ستيغ جارل هانسن مجموعة من العوامل المتداخلة يعود إليها الفضل في الانبعاث المتكرر لحركة الشباب.
فبجانب دخولها كطرف فاعل في لعبة المنافسات والتوازنات العشائرية من خلال استقطاب الزعماء المحليين، تمكنت الشباب من اكتساب سمعة طيبة في بعض البيئات باعتبارها قوة قادرة على بسط الأمن وحماية الحقوق من خلال نظام المحاكم التابع لها، والذي عزز قدرتها على تنفيذ سياساتها ومعاقبة المتمردين عليها.
في حين يمثل الاقتصاد السياسي للعنف، وفق وصف البروفيسور باول ويليامز، أحد الأبعاد الرئيسية للأزمة في مناطق سيطرة الحركة، مع قدرة الشباب على تحصيل ملايين الدولارات من خلال الضرائب غير القانونية والتهريب وشبكات غسيل الأموال داخل وخارج الصومال، ما يضخ المال في شرايين الحركة ويمكنها من شراء الأسلحة وتجنيد المقاتلين في بلد يعاني شبابه من بطالة عالية ومن معدلات فقر مرتفعة للغاية.
توسع الحركة
بجانب ما سبق تمكنت الحركة من ترسيخ سيطرتها لسنوات طويلة على مناطق من جوبا السفلى والوسطى جنوبي الصومال، وكذلك في ولاية جنوب غرب البلاد، وحوّلتها إلى بيئة آمنة تستخدمها لإراحة قواتها وتدريب قوات جديدة والتخطيط وتنسيق العمليات والجهود الدعائية، حيث تمثل استعادة السيطرة الحكومية واستدامتها في هذه الأراضي شرطا لا غنى عنه للخلاص النهائي من شبح الشباب.
ختاما، فما ذُكر سابقا يمثل عناوين عريضة يندرج تحتها الكثير من العناوين الفرعية التي رسمت لسنوات طويلة صورة قاتمة تتجاوز الواقع الأمني الصومالي إلى قضايا جوهرية شكّلت بتعقيداتها ملامح الأزمة التي تئن تحتها بلاد البونت.
وهكذا فيبدو أن تحقيق نصر نهائي في مواجهة حركة الشباب لا يستلزم فقط تطوير القطاع الأمني والمؤسسة العسكرية اللذين شهدا نقلات ملحوظة في السنوات الأخيرة، بل إنه يتداخل بشدة مع الحاجة الماسة إلى إعادة تعريف دور القبيلة في الحياة السياسية ومكافحة الفساد وتغليب المصالح الوطنية العليا على المصالح الحزبية والفردية بما يمهد الطريق نحو إخراج الصومال من أزمته الممتدة.