“نحن نُباد” نداء من بقعة الموت في جباليا
غزة- “أشهد ألا إله إلا الله” كان أبو حسن يرددها بلسان ثقيل بدأ يتذوق طعم الموت، قاد الصوت الدفين أم حسن لمكان زوجها العالق تحت الأنقاض بعد بحث مطول، عقب نسف الاحتلال منزلهم وهم محاصرون بداخله في منطقة التوام شمال قطاع غزة، بعد تقدمه بشكل مفاجئ في عملية عسكرية أعلن عنها لاحقاً.
تقول أم حسن خلف للجزيرة نت “خرج قلبي من مكانه حين سمعته، وظللت أُلح عليه بأن يكون قوياً، وأن يحاول التنفس” وبكفّيها الهزيلتين وبضوء مصباح الهاتف الذي يحمله حفيدها تمكنت من القيام بأصعب مهمة إنقاذ يمكن أن تقوم بها امرأة، غير آبهةٍ بحصار المنطقة براً بالآليات وجوّا بالطائرات، وبعد ساعتين متواصلتين من الحفر انتشلت أبو حسن مصاباً.
وكان عليهم جميعا بعدها الفرار من بقعة الموت عبوراً من أمام الدبابات، تقول أم حسن “خرجنا حفاةً نسير على الزجاج والردم، ثم بدأت الدبابات بإطلاق نيرانها، فانبطحنا أرضاً وصرت أسحب زوجي من يده السليمة، لأنه لم يكن قادراً على دفع نفسه بسبب إصابته، حتى وصلنا إلى حافة النجاة”.
واضطرت عائلة أبو حسن للنزوح قسراً من بيتهم حين استهدفه جيش الاحتلال بالقنابل، بعد بقائهم فيه 7 شهور، تقول أم حسن “عقب انسحاب قوات الاحتلال الأول من شمال القطاع، استصلحنا طابقاً من البيت، رقّعنا الفجوات بالأسمنت، ولما بدأنا نشعر بشيء من الاستقرار باغتونا بالاجتياح مجدداً”.
فتح الباب موت
تمكنت أم حسن و18 فرداً كانوا محاصرين في منزلها من الفرار من الموت “بمعجزة” كما يقولون، لكن آمنة و6 نساء أُخريات ما زلن محاصراتٍ في مخيم جباليا منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول حتى وقت كتابة هذا المقال.
تواصلت الجزيرة نت مع آمنة التي لم تستطع الخروج من المنزل بسبب تحملها مسؤولية والدتها المسنّة غير القادرة على المشي، وتقول “كان فتح الباب للخروج بمثابة موت محقق، لوجود عشرات الآليات التي تقدمت بشكل مفاجئ وتمركزت أمامه، لذا فلم يكن أمامنا خيار سوى البقاء”.
أما عن ظروفهن المعيشية، فتخشى آمنة من نفاد المياه، مع محاولة التقنين من استخدامها وشُربها بالحد الأدنى، لأنهن لا يعلمن متى سيُفك الحصار.
ولا تمنع الستائر الممزقة المطرزةٌ بالرصاص دخول غبار الجرافات العسكرية، كما أنها لا تحجب ضوء الآليات، ولا تحول دون عبور الشظايا والحجارة نحو المحاصرين، لكن هذا هو أصعب موقف وشعور تمرّ به آمنة مع السيدات المحاصرات المتكدسات في أمتارٍ قليلة من غرفة بالطابق السفلي من المنزل الذي لا تتوقف الآليات عن ضربه بالقذائف المدفعية.
“تحمينا الملائكة ويثبتنا الله” تجيب آمنة عن سؤال الجزيرة نت عن مصدر وسبب السكينة التي تتحدث بها، وتكمل “نحن لا نريد الدنيا ولسنا متمسكين بها، ولا شيء لنخسره أكثر مما خسرنا”.
ضربة نيزك
أما المحاصر محمد عويص، فقد رفض ترك مخيم جباليا والنزوح جنوباً، ويقول في حديثه مع الجزيرة نت “إن فكرة النزوح لم تكن واردة لدينا، لأننا لن نسمح بتكرار النكبة ولن نُعيد مأساة أجدادنا”.
وبحسب شهادة عويص فإن قوات الاحتلال تتقدم ليلاً، وتقوم بزراعة روبوتات مفخخة، محملة ببراميل من المتفجرات تتحرك بين المنازل والمربعات السكنية، ويتحكم بها جيش الاحتلال عن بُعد، واصفاً المناطق المنسوفة بأنها “كأنها تلقّت نيزكاً من السماء سقط على الأرض”.
ويستذكر منزله في حي الفالوجا والمكون من 5 طبقات، وقد طاله النسف، ويقول “سكنتُ منزلي حديثاً ولم أنته من تسديد أقساطه بعد، وحين خرجنا كانت القذائف تنهال علينا فلم نحمل منه شيئا”.
وانتقل عويص وعائلته لمأوى آخر داخل جباليا المحاصرة التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فتوزيع المساعدات الإنسانية في مناطق شمال القطاع توقف قبل بدء العملية العسكرية بـ3 أسابيع، مما فاقم الوضع الإنساني للعالقين داخل طوق الحصار الإسرائيلي.
صوت المحاصرين
“وضعٌ مأساوي” وصفه الصحفي محمد الشريف للجزيرة نت، وذلك خلال وجوده في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، ويضيف “المستشفى في مرمى القذائف الإسرائيلية، كما أنها مهددة بالتوقف عن العمل في أية لحظة جراء شح الوقود ونقص الأكسجين”.
وأوضح الشريف أن الكادر الطبي بالمشفى لا يزال حاضرا مع مئات المصابين، وأنّ الذين تم إجلاؤهم عن طريق منظمة الصحة العالمية هم ذوو الإصابات بالغة الخطورة، ولفت الشريف إلى أن المجاعة وصلت إلى أسوأ مراحلها اليوم، حيث يكتفي الناس بوجبة طعام واحدة “فمن لم يمت قصفاً سيموت جوعاً وعطشاً”.
وفي رده على سؤال الجزيرة نت عن سبب بقائه شمال القطاع، يقول “خُلقت الصحافة لنقل الحقيقة، ولو غادرنا جميعاً فمن سيتولى هذه المهمة؟” كما يرى الشريف أن الذين صمدوا شمال القطاع بحاجة لمن ينشر صوتهم ومعاناتهم للعالم، وأن المسؤولية الملقاة على عاتقه أن يكون صوت المحاصرين الصامدين في بيوتهم.
وختم الشريف حديثه بقوله “أشعر بالتقصير، لأن حجم الإبادة التي نتعرض لها أكبر من أن يوثقها صحفيون لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة”.
مخطط الإبادة
بحسب مصادر طبية، فقد أودت الإبادة بحياة أكثر من 450 فلسطينياً خلال أسبوعين في محافظة شمال قطاع غزة، بينما يشي التصعيد باستمرارها، وذلك بعد استدعاء وتعزيز قوات إسرائيلية وتجنيد قوات احتياطية إضافية، وتوسيع الغارات والقصف والاستهدافات العشوائية، وقطع شبكات الاتصالات والإنترنت.
وبينما تسعى إسرائيل لتنفيذ مخطط تطهير عرقي، تريد له أن يكون في العتمة، بهدف تجفيف الوجود الفلسطيني شمال قطاع غزة، ودفع الناس للخروج منه، يصر أكثر من 100 ألف فلسطيني محاصرين شمال القطاع على إفشاله، ويوثرون الموت في بيوتهم على تمريره.