ما مستقبل الحرب على غزة وسيناريوهات تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران؟
بعد انقضاء عام كامل منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتوسيع الاحتلال للحرب على جبهة لبنان، باتت تطرح العديد من التساؤلات حول مآلات وسيناريوهات هذه الحرب، في ظل الرفض الإسرائيلي المتواصل لدعوات وقف إطلاق النار، والصمت العالمي والإقليمي أمام ما يجري، وفي ظل تراجع الحديث عن أفق سياسي أو طروحات لوقف الإبادة التي يتعرض لها أهالي غزة.
ومع تصعيد الاحتلال الإسرائيلي على جبهة الشمال ضد حزب الله اللبناني، والتوقعات بارتفاع وتيرة الهجمات المتبادلة مع إيران، استطلع موقع الجزيرة نت ومركز رؤية للتنمية السياسية آراء مجموعة من الخبراء والأكاديميين في محاولة لفهم مدى تأثير اتساع جبهات القتال على مستقبل الحرب على غزة ومآلات الجهود السياسية في هذا الإطار.
وقد استعرضت هذه الآراء من خلال المحاور والأسئلة التالية:
- كيف سيؤثر التصعيد على لبنان على مجريات الحرب على غزة وجهود وقف الحرب؟
- ما سيناريوهات تصعيد الاحتلال الإسرائيلي تجاه لبنان وحزب الله؟
- كيف سيؤثر اتساع جبهات القتال على علاقة المجتمع الإسرائيلي تجاه النخبة الحاكمة ورؤيتهم للمستقبل؟
- ما سيناريوهات انخراط حركات المقاومة في العراق وأنصار الله في اليمن في المرحلة المقبلة؟
- ما سيناريوهات تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران في أعقاب الرد الأخير في أكتوبر/تشرين الأول الجاري؟
ويمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:
- لا يمكن فصل جبهات المقاومة مع الاحتلال عن بعضها بعضا، إذ لم يعد هذا القرار تكتيكيا، بل بات يمثل إستراتيجية مفروضة على أطراف المقاومة.
- ما زال سقف الأهداف الإسرائيلي متحركا ويتسع، وما يعلن عنه من أهداف حتى الآن سواء في غزة أو لبنان هو أهداف مرحلية تكتيكية.
- نتنياهو لن يوقف الحرب الآن حتى لو أعلنت المقاومة الفلسطينية وحزب الله القبول بالشروط الإسرائيلية والأميركية، فمشروعه يجمع ما بين منطلقات أيديولوجية دينية وأبعاد جيوسياسية ومصالح سياسية.
- الحرب على غزة ابتداء ثم توسيعها إلى لبنان، وربما إلى ساحات أخرى لاحقا، لم تكن عملية انتقام مما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل هي حرب لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وحسم للصراع.
- الإنجازات التي حققها نتنياهو هي إنجازات مؤقتة، لأن الأزمة الإسرائيلية أبعد وأعقد من أن تحل بضربة قاضية أو ضربات سريعة كالتي وجهت لحزب الله.
- رغم أهمية كل جبهات الإسناد العراقية واليمنية فإن قوة الثقل الأساسية هي بالجبهة اللبنانية، وبالتالي فإن المواجهة مع حزب الله هي من سيرسم المشهد المستقبلي.
- هناك تياران داخل إسرائيل بات يتولد بينهما صراع بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأول ينادي بضرورة تحقيق الانتصار التام، والثاني يدعو للتوصل إلى ترتيبات اليوم التالي للحرب لعدم قدرة تحقيق الانتصار الحاسم.
- ربما وجهت إيران في ردها الأخير تحذيرا حازما لأميركا مقابل ما تقوم به إسرائيل، وقد فسره البعض محاولة هروب إيرانية من الدخول في مواجهة شاملة، لكن شكل وطبيعة الرد الإسرائيلي سيحسم التوجه الإيراني المقبل.
لا يمكن فصل الحرب على غزة والضفة عما يجري على الجبهة الشمالية ضد حزب الله، فهي كلها حلقات متكاملة ضمن الحملة العدوانية الإسرائيلية الشاملة التي قال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنها تهدف لتغيير خريطة الشرق الأوسط.
هذه الجبهات وما يرتبط بها من ساحات إسناد هي عقبات رئيسة أمام مشروع الهيمنة الإسرائيلي الذي لم يظهر فجأة بعد عملية طوفان الأقصى، بل تبدى بأوضح صوره قبل ذلك من خلال ما سمي بـ”صفقة القرن”، وموجة التطبيع “الإبراهيمي” الذي عملت إسرائيل من خلاله على تحقيق السلام والعلاقات الطبيعية مع مجموعة من الدول العربية، وتأجيل حل القضية الفلسطينية، أو الاستعاضة عن الحل السياسي مع الفلسطينيين بتحسينات معيشية واقتصادية، وبالتالي بناء نظام إقليمي جديد من “الدول المعتدلة” بقيادة إسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها.
غير أن عملية طوفان الأقصى نسفت هذه المعادلة، لذلك فإن الحرب على غزة ابتداء ثم توسيعها لتشمل الضفة ولبنان وربما ساحات أخرى لاحقا، لم تكن مجرد عملية للانتقام مما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل حربا لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وحسما للصراع، وفرض الحل الإسرائيلي القائم على اجتثاث المقاومة، وتهويد القدس، ومنع قيام دولة مستقلة بواسطة القوة المسلحة، وتساعد الإدارة الأميركية إسرائيل على تحقيق أهدافها تحت ذريعة عدم توسيع الصراع.
والتصعيد تجاه لبنان يكشف عن أهداف كبرى أبعد بكثير من تلك التي أعلنتها إسرائيل (إعادة سكان الشمال وإلغاء التهديد الذي يمثله حزب الله)، فالهجوم الشامل على حزب الله يهدف إلى كسر الحلقة الأكثر صلابة وقوة في جبهة قوى المقاومة والممانعة بما يملكه الحزب من إمكانيات عسكرية وتأثير سياسي.
وهكذا فإن الضربة هي لكل محور المقاومة وحلفاء إيران، ومنعا لأي طرف إقليمي أو عربي من إسناد غزة، كما أن ثمة مخططات إسرائيلية قديمة جديدة تجاه لبنان تهدف إلى تحويل هذا البلد إلى محمية إسرائيلية، فضلا عن الأطماع الإسرائيلية تجاه لبنان أرضا وموارد مائية وثروات بحرية، حيث لم تكن إسرائيل راضية تماما عن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان الذي كان حزب الله طرفا فيه.
وفي المدى القريب، ربما نجحت القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية في محو عار فشلها في التصدي للعملية العسكرية التي نفذتها فصائل المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإعادة الاعتبار لصورة الردع الإسرائيلي من خلال يد إسرائيل الطويلة التي تضرب في كل مكان دون أن تخشى عقابا.
ولعل نتنياهو هو أبرز المستفيدين من هذه التطورات، لجهة تثبيت ائتلافه الحكومي بل وتوسيعه، وتفتيت جبهة المعارضة، وتهميش قضايا الصراع الداخلي وقضية الأسرى في غزة، إلى جانب تعزيز منطق الغطرسة والغرور الذي يعتقد أن إسرائيل قادرة على حل أزماتها بالقوة المسلحة، لكن ما يسميه الإسرائيليون الإنجازات التكتيكية، لا يلغي أن هذه القيادة لا تملك إستراتيجية واضحة ومقنعة لهم.
كما أن اعتراضات الجمهور الإسرائيلي على نتنياهو وحكومته لا تقتصر على إدارته للحرب فقط، بل تشمل فساده وسلوكه الفردي وربط مصيره باليمين الديني والصهيوني المتطرف، ومحاولاته تغيير طبيعة النظام السياسي في إسرائيل لصالح نظام فردي شمولي واستبدادي، إضافة للتحديات الأمنية التي لم تحل بعد، لتفرض نفسها من جديد، مما يعني أن كل إنجازات رئيس الوزراء هي إنجازات مؤقتة، لأن أزمات إسرائيل أبعد وأعقد من أن تحل بضربة قاضية سريعة كالتي وجهت لحزب الله.
أما فيما يتعلق بخيارات المقاومة في اليمن والعراق، فإنها تكتسب طابعا رمزيا، ولكل ساحة خصوصيتها وأهميتها:
- فاليمن تمكن من تعطيل الملاحة البحرية ومنع إسرائيل من استخدام باب المندب والبحر الأحمر وميناء إيلات.
- ومقاومة العراق لها قاعدة شعبية واسعة وظهير إيراني مباشر مع مراعاة تعقيدات الوضع السياسي في العراق والوجود الأميركي المباشر فيه.
وفي جميع الأحوال وجود هذه القوى واستمرار دعمها لفلسطين هي شهادة على أن إسرائيل كيان غريب ونافر ولا ينسجم مع المنطقة، ولن يكون محل ترحيب أو قبول من شعوبها.
وفي تقييم الموقف الإيراني، يجب ألا ننسى جهودها في بناء ودعم محور المقاومة بكل السبل، ومواجهة مشروع الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، وهذا ما تقر به قوى المقاومة الفلسطينية.
كما لا ننسى أن إسرائيل تضع إيران على رأس أولوياتها، وتعمل دائما على تأليب الولايات المتحدة والقوى الغربية عليها، ليس بسبب المشروع النووي كما تدعي تل أبيب، بل لأنها ترفض وجود أي قوة إقليمية لديها مشروعها المستقل القادر على مواجهة المشروع الإسرائيلي.
ولذلك تعمل إسرائيل بكل طاقتها لإقحام الولايات المتحدة وتوريطها في حرب ضد إيران، وتدرك الأخيرة ذلك وتعلم أن أية مواجهة مع إسرائيل هي في الواقع مواجهة مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي.
لذلك فإن الكلام الذي يدعو إيران للمسارعة في دخول الحرب أو يتهمها بالتخلي عن حزب الله وحلفائها، هو كلام غير مسؤول وسطحي ويصب في خدمة آلة الدعاية الصهيونية والأميركية ومنطق المطبعين والمتخاذلين، والأولى هو توجيه اللوم والنقد للأطراف التي لم تفعل شيئا لإسناد غزة وفلسطين، ولا للدفاع عن لبنان، وما زالت تمنح الشرعية لإسرائيل رغم سقوط كل الأوهام عن رغبتها في السلام.
بدأت إسرائيل التصعيد على الجبهة الشمالية في إطارين:
- الأول يتمثل بالاستهداف المباشر للقيادات في حزب الله وفي مقدمتهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، بهدف إحداث خلخلة في البنية القيادية والهيكلية للحزب، ولإعطاء صورة التفوق الاستخباراتي للاحتلال بعدما فشل في حسم الحرب على غزة.
- أما الثاني فتمثل في الضغط المباشر على الحاضنة المجتمعية للمقاومة اللبنانية، والدفع لإجبار المدنيين على مغادرة قراهم وبلداتهم، وقتل المئات منهم بهدف التمهيد لإحداث تأثير على البنية السياسية داخل لبنان.
وحتى اللحظة يتمثل السيناريو الأبرز في التركيز على بيئة حزب الله وليس البيئة اللبنانية الشاملة، ومن المستبعد حتى الآن أن يصل التصعيد الإسرائيلي على لبنان إلى حد الحرب الشاملة باستهداف كل شيء بما في ذلك البنى التحتية.
أما العمليات البرية فليس مستبعدا أن تمتد إلى العمق اللبناني في منطقة الضاحية، وفي نهاية المطاف فإن كل التقديرات قد تتغير إلى دخول بري شامل، وقد تتدهور الأوضاع في المنطقة برمتها وتدخل إسرائيل في حرب استنزاف.
أما فيما يتعلق بالأوضاع الإسرائيلية الداخلية، فالنخبة الحاكمة في إسرائيل اليوم تنقسم قسمين: النخب القديمة والنخب الجديدة، أو إسرائيل الأولى وإسرائيل الثانية، والانقسام واضح ويتعمق بينهما اجتماعيا وسياسيا حتى وصل إلى الجيش، خاصة بعد التحولات في بنيته، إذ يتحمل العبء الأساسي فيه اليوم المتدينون القوميون بالدرجة الأولى وأبناء الضواحي (اليهود الشرقيون)، وأنصار حزب الليكود بالدرجة الثانية.
بينما النخب القديمة ينشط أبناؤها في سلاح الجو والاستخبارات العسكرية وأذرعها ووحدات أخرى ليس لها طابع قتالي مباشر.
لقد انفجر هذا الصراع بين الفريقين علنا بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023، ويعبر عن نفسه في موقفين سياسيين: الأول ينادي بضرورة تحقيق الانتصار التام، والثاني يدعو إلى التوصل إلى ترتيبات معينة حول اليوم الذي يلي الحرب، وأن عملية سياسية هي ما ستؤدي إلى تحقيق أهداف إسرائيل.
لذلك، فإن القدرة على تحقيق الأهداف السياسية لإسرائيل ستلعب دورا مهما في العلاقات البينية للمجتمع الإسرائيلي في المستقبل، وذلك رغم الجهود الأميركية لضبط إيقاع الخلافات داخل إسرائيل.
بالنسبة لانخراط الجماعات المقاتلة في العراق واليمن في القتال وربما في سوريا، فإن تأثير ضرباتها يبقى محدودا وغير مؤثر. وأعتقد أن المواجهة الدائرة الآن مع حزب الله هي التي سترسم المشهد المستقبلي.
ورغم الرد الإيراني وما حمله من رسائل، فإن طهران تمارس سياسة واقعية مع السير على حافة الهاوية دون الوقوع فيها، فهي لا تستطيع المبادرة إلى خوض مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن إن فرضت عليها فهذه مسألة أخرى، وهذا ما ستحدده شكل وطبيعة الرد الإسرائيلي المرتقب.
إن نقل الثقل القتالي إلى الحدود الشمالية يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية في الحرب على غزة، أما السلبية فتتمثل بانشغال عالمي بالأحداث في لبنان أكثر مما يجري في غزة، ولكن الإيجابيات تكمن في توسيع جبهة الاستنزاف مما يجعل المواجهة أكثر تأثيرا على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
هذا، إذا أخذ بعين الاعتبار أن القدرات القتالية لحزب الله ستكون أكثر قوة وحضورا وفاعلية على الداخل الإسرائيلي بحكم ترسانة الصواريخ المتعددة المدى والقدرة على الإطلاق التي يملكها الحزب، إضافة إلى قدراته في التعامل مع التوغل البري الإسرائيلي بحكم طبيعة الجغرافيا اللبنانية، وهذا ما سجل في الأيام الأولى للعمليات التي سقط فيها العديد من ضباط وجنود الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا ما توسعت العملية البرية فإن ذلك من شأنه أن يضاعف حجم الخسائر الإسرائيلية. إضافة إلى ذلك، فإن فتح هذه الجبهة يشير إلى إمكانية توسع المواجهة، وبالتالي تدخل القوة الإيرانية واليمنية وباقي الساحات بشكل أكبر، مما قد يعقد المعادلة أمام الاحتلال الإسرائيلي وقدرته على التحكم في مستقبل المشهد.
ومنذ عام كامل تستمر الحرب على غزة، ورغم كل الاستهداف الممنهج للمدنيين والبنية التحتية لكنها تحولت إلى حرب استنزاف يومي للجيش الإسرائيلي، وبالتالي فإنه من الممكن عدم قدرة الاحتلال على تحقيق أهدافه المركزية بغزة، ومن الطبيعي أيضا أنه لن يستطيع أن يحقق الأهداف ذاتها في لبنان.
وسيكون ذلك تورطا أكبر لإسرائيل، ومغامرة كبيرة رغم ما يمكن أن يسمى بتحقيق أهداف مرحلية بعمليات الاغتيال وتفجيرات أجهزة اللاسلكي، خاصة بعد ما أثبته حزب الله أنه قادر على إعادة ترتيب صفوفه والتصدي لهذا العدوان.
وبالنسبة لسيناريوهات الحرب في لبنان، أعتقد أنها ستكون حرب استنزاف طويلة من حيث البعد الزمني، ولن تحسم بالضربة القاضية. وستحاول قوى المقاومة أن تضعف القدرات الإسرائيلية، وأعتقد أن دخول ما يزيد على مليون إسرائيلي إلى الملاجئ نتيجة الضربات الصاروخية بحد ذاته يشكل معضلة لإسرائيل، وسيحفز الضغط من قبل الجبهة الداخلية على حكومة الاحتلال.
ويكون السيناريو الآخر هو تحول محور المقاومة من إسناد إلى انخراط كامل، وربما هذا ما نرى مؤشراته في ساحة اليمن والعراق، وبالتالي يصبح الاحتلال الإسرائيلي أمام جبهة عريضة من المواجهة، ما قد يشكل عامل ضغط ليس على إسرائيل فحسب، بل على المستوى الدولي الذي قد لا يرغب بالذهاب إلى حرب شاملة في هذا التوقيت لاعتبارات كثيرة، وبالتالي يمكن أن تتغير القراءات الإسرائيلية مع الوقت.
بخصوص الموقف الإيراني، فإنه من الصعب جدا أن تتخلى عن حلفائها نتيجة لموقفها العقائدي بالدرجة الأولى، كما أن برنامجها قد بني على مناهضة السياسية الأميركية الإسرائيلية، ولكن طهران في الوقت ذاته لا تريد حربا شاملة، وقد جاء السابع من أكتوبر/تشرين الأول دون تنسيق واضح معها، وبالتالي تحاول الآن أن توازن ما بين عدم الانفكاك عن معادلة المقاومة وما بين المصالح الخاصة بها، محاولة تجنيب المنطقة حربا طاحنة قد يدفع الجميع ثمنا فيها.
ترتبط الحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني بالأساس بالحرب على غزة، فالجبهة الشمالية شكلت إسنادا للمقاومة الفلسطينية على مدار فترة الحرب، وأعلن حزب الله مرارا أن وقف عملياته مرتبط بإنهاء الحرب على غزة، وهو ما شكل ورقة ضغط بيد حركة حماس والمقاومة الفلسطينية على طاولة المفاوضات مع إسرائيل.
ولم تنجح المحاولات الأميركية المتكررة في فصل جبهة لبنان عن غزة، لذلك فالهدف الأول من الحرب الإسرائيلية الآن هو الضغط على الشعب اللبناني ومقاومته في محاولة فصل هذه الجبهات عن بعضها البعض.
لكن، يظهر الآن أن المعضلة الأساسية هي أن الحرب على لبنان لن تتوقف، حتى لو وافقت المقاومة اللبنانية على فصل جبهة لبنان عما يجري في غزة، لأن الاحتلال بدأ يطالب بترتيبات أمنية جديدة على الحدود الشمالية، وهذه الترتيبات تعني اعتراف المقاومة بالهزيمة وليست على مبدأ التبادلية.
يبدو أن ما قامت به إسرائيل هو هروب من مأزقها في غزة إلى مأزق جديد في لبنان، وهي غير قادرة على تحقيق هدفها الذي ذهبت إليه بإعادة المستوطنين في شمال فلسطين، وفصل الجبهات، حتى بعد الاغتيالات التي تنفذها، وسيستمر المسار بهذا الاتجاه حتى تصل إلى حالة تصادم مع واقع تعترف من خلاله بعدم قدرتها على تحقيق هذا الهدف.
وحينها، يمكن أن يكون هناك مسار سياسي وتسوية تشمل جميع الجبهات عبر تحفيز الأقطاب الدولية للتدخل من أجل إنجازها، خصوصا أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لتقويض المقاومة من داخلها وخارجها، وهذا من منظوره لا يكون إلا من خلال التغيير الجيوسياسي في المنطقة برمتها.
أما فيما يتعلق بالسيناريوهات المطروحة في الداخل الإسرائيلي للتعامل مع لبنان، فهي تبدأ بالقصف الجوي وصولا إلى المناورة البرية، وتفضي إلى تسوية سياسية على غراراتفاق 17 مايو/أيار عام 1983، بمعنى أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى القضاء على المقاومة وعلى حاضنتها الشعبية الداخلية وقدرتها على التأثير في القرار السياسي اللبناني.
وهذا يبدو قريبا لسياستها في غزة، من خلال استهداف حاضنة المقاومة الفلسطينية، التي يمكن أن تفضي إلى انقسام داخلي بين حاضنة المقاومة وأخرى يحاول أن يفرزها الاحتلال.
وقد نكون أمام سيناريو تدميري سيعمل عليه الاحتلال في لبنان شبيه بسيناريو غزة، مستفيدا من الموقف الأميركي الداعم، خاصة مع قرب الانتخابات الأميركية، حيث يتنافس المرشحان الرئاسيان دونالد ترامب وكامالا هاريس في دعم الاحتلال.
وسيسعى نتنياهو إلى تحويل مخاوفه الشخصية إلى الضغط على أميركا للدخول المباشر في مواجهة مع إيران، أو إعطائه الضوء الأخضر لاستخدام الترسانة العسكرية الإستراتيجية الإسرائيلية لتنفيذ ضربات تطال البرنامج النووي الإيراني، وبذلك يضمن نتنياهو أنه استطاع أن يحقق إنجازا رغم خسارته المتوقعة في غزة ولبنان.
بطبيعة الحال، توجهات المجتمع الإسرائيلي تتجه نحو اليمين، والسردية الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تعتمد على أنها تواجه خطرا وجوديا، وبالتالي الأثمان التي سيدفعها الإسرائيليون مهما كانت كبيرة يمكن تحملها.
لذا، نرى المجتمع الإسرائيلي يدعم قرار الحرب رغم كل المظاهرات التي شهدتها المدن الإسرائيلية المطالبة بضرورة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين في غزة، وبعد الذهاب للحرب على الجبهة الشمالية شاهدنا كيف أن الشارع الإسرائيلي صمت عن كل هذه المطالب ودعم الحرب.
لكن باعتقادي، في نهاية المطاف نتائج هذه الحرب هي من سيحدد توجهات الشارع الإسرائيلي مستقبلا، فإذا ما فشل نتنياهو في تحقيق الأهداف التي وضعها، وأجبر على الذهاب إلى تسوية سياسية فهذا من شأنه أن ينهي حقبة السيطرة اليمينية على الشارع الإسرائيلي، وسوف نرى توجهات جديدة قد تختلف في تعاملها مع الفلسطينيين. وبالتالي سنرى تغيرات جذرية ستذهب باتجاه التسويات السلمية أكثر منها القرارات الحربية.
وتعد حركات المقاومة في العراق واليمن هي جبهات إسناد أخرى، وباعتقادي فتوى السيستاني ودعمه لهذه الجبهات الإسنادية يعني أنها قد تنخرط وتتحول من مجرد إسناد إلى مواجهة مباشرة، خصوصا إذا ما تطورت الجبهة الشمالية مع لبنان وشعرت قوى المقاومة أن حزب الله مستهدف بشكل كبير، وهو ما يعني أن تتحول المواجهة إلى مواجهة إقليمية.
أما إيران فهي قريبة على حافة المواجهة الشاملة، وربما في ردها الأخير وجهت تحذيرا حازما للولايات المتحدة مقابل ما تقوم به إسرائيل، يفسر البعض ذلك أنه محاولة هروب إيرانية وعدم رغبة في الدخول لمواجهة شاملة.
لكن في المقابل، فإن الاحتلال الإسرائيلي يجر إيران إلى المواجهة، وهذا ما سيحدده شكل وطبيعة الرد الإسرائيلي بعد ضربات إيران في أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ما إذا سيكون ضربة للمنشآت النووية والنفطية وبالتالي تجد إيران نفسها في لحظة معينة ضمن دائرة المواجهة المباشرة، أم أن الرد الإسرائيلي سيكون ضمن سقف معين لا يدفع طهران بهجوم كبير.
كان هناك افتراض يقول إنه في حال ذهاب الاحتلال الإسرائيلي للتصعيد على جبهة الشمال، فإن ذلك من شأنه أن يخفف الضغط العسكري على غزة، لكن يلاحظ أنه رغم اشتداد المواجهة مع حزب الله، تصاعد العدوان على غزة لدرجة أن ما يجري في شمال القطاع هو شبيه بالأيام الأولى للعدوان.
وبالتالي استغل الاحتلال هذا الانشغال بالشمال لفرض وقائع على الأرض في غزة عبر تنفيذ مجازر، ومحاولة إخضاع للقطاع فيما بات يعرف بخطة الجنرالات، التي تهدف إلى إسقاط حكم حماس وفرض واقع سياسي جديد بالقطاع.
أما سيناريوهات التصعيد على الحدود الشمالية فتنطلق من الأهداف التي يحاول أن يحققها الاحتلال، المتمثلة في القضاء على حزب الله وقدراته العسكرية، ومحاولة إبعاده إلى ما بعد نهر الليطاني، إضافة إلى ذلك محاولة سيطرة إسرائيلية على شريط حدودي تسعى تل أبيب من خلاله للتعبير عن قدرتها على تحقيق أهداف الحرب، بما فيها إعادة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم.
وبالتالي فإن السيناريو النهائي الذي يعمل عليه الاحتلال هو استخدام الضغط العسكري للوصول إلى اتفاق سياسي يحقق له أهدافه، لكن هذا الشيء حتى اللحظة لا يمكن التسليم به باعتبار أن حزب الله لن يقبل بذلك، وسيحاول إفشال أهداف الاحتلال.
وسيقودنا هذا إلى مواجهة سيحاول كل طرف فيها استخدام أقصى قدراته العسكرية لمحاولة إخضاع الآخر بالنار، مما يعني أن الاحتلال قد ينفذ تهديداته بتسوية كامل القرى والبلدات اللبنانية على الشريط الحدودي الشمالي، وتحويل جزء منها إلى ما هو عليه واقع مدينة القنيطرة السورية.
وحتى الآن، فإن اتساع جبهات القتال وشكل العلاقات الإسرائيلية الداخلية يخدم نتنياهو، وفقا لاستطلاعات الرأي، ويبدو أن المجتمع الإسرائيلي حتى اللحظة لديه الاستعداد لدفع الأثمان أمام إمكانية تحقيق الأهداف الشاملة المتمثلة في القضاء على المقاومة في غزة ولبنان.
وهذا بعكس توقعاتنا السابقة في أن مصير نتنياهو السياسي مهدد، فبعد استمرار الحرب طوال هذه المدة الزمنية أصبح مصيره أكثر استقرارا مع دعم قرار الحرب من القطاعات الإسرائيلية كلها. كما أنه يحقق مكاسب من خلال ارتفاع المطالب الداخلية الإسرائيلية تجاه الحرب على لبنان، وكذلك استهداف القدرات العسكرية الإيرانية.
يبدو التصعيد الإسرائيلي على لبنان تجسيدا عمليا لسياسة الهروب إلى الأمام التي ينتهجها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويأتي ضمن سياق وأد أي هامش لمسار قد يفضي إلى عقد صفقة وقف إطلاق النار في غزة.
أما بالنسبة للسيناريوهات الإسرائيلية تجاه لبنان فإنها تتمحور حول القيام بالتوغلات المحدودة داخل الأراضي اللبنانية، ويرافقها قصف مدفعي على البلدات اللبنانية الحدودية مع شمال فلسطين المحتلة وهضبة الجولان السورية المحتلة، ويرافق ذلك قصف عنيف من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي يطال العمق اللبناني.
وكل ذلك يأتي ضمن إجراءات تمهيدية للاجتياح البري، انطلاقا من أن الاحتلال استطاع عبر عمليات الاغتيال وتفجيرات الأجهزة اللاسلكية من خلخلة الواقع القيادي ومستوى القرار داخل حزب الله، لكن ظهر بطلان هذا التقييم من خلال استعادة المقاومة خلال الأيام الماضية زمام المبادرة، وقدراتها على استهداف الداخل المحتل من خلال الصواريخ والطائرات المسيرة.
اللافت حتى الآن، أن الاحتلال قد يكون دخل مرحلة العمى الأمني أو انحصار الأهداف ذات الوزن الإستراتيجي، وذلك سيجعل التقديرات الإسرائيلية في التعامل مع أي مرحلة مستقبلية محفوفا بالإخفاق، وبالتالي التردد بالذهاب بعيدا في الاجتياح البري.
داخليا، يعيش المجتمع الإسرائيلي أسوأ حالاته، فهو ما بين مد وجزر، ومتذبذب التوجه إذ يعاني من حالة اضطراب فيما يتعلق بتوجهاته الداخلية، لأن الأزمة الحالية التي يشهدها الاحتلال تمتزج فيها التباينات الفكرية والأيديولوجية الداخلية والمخاطر الخارجية، باعتبار أن المنطقة تنذر بما هو أسوأ نتيجة تصاعد وتيرة الأحداث، وبشكل خاص إذا ما توسعت الجبهة لمواجهة إقليمية بدخول طهران.
مع العلم أن المجتمع الإسرائيلي يميل نحو اليمين، وهو ذو بصمة فكرية دينية، مما يعني أنه يشعر بأن ما يجري اليوم من أحداث وتطورات بمثابة حرب وجودية تهدد مصيره.
وحول مشاركة قوى المقاومة في اليمن والعراق، باعتقادي فإنه من المرجح أن تشتعل المنطقة بفعل انتشار القواعد الحربية الأميركية، خصوصا ما قد تؤول إليه شكل المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران.
ومن الوارد جدا أن يذهب الاحتلال إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية من خلال توجيهه ضربة واحدة عبر استخدامه أقوى ترسانة عسكرية لديه، وما يشجعه على ذلك هو خشيته الحقيقية من البرنامج النووي الإيراني، وكذلك توفر الدعم الأميركي المنقطع النظير، وحلم نتنياهو الذي لطالما تمناه وهو الرغبة الفعلية بإحداث تغيير في الجغرافيا السياسية ومعادلات الشرق الأوسط.
يتسم المشهد اليوم بالمفاجآت، لهذا فمن المحتمل أن يكون هناك العديد منها في قادم الأيام من قبيل تغيير جوهري قد يطرأ سريعا على بعض مواقف الدول الإسلامية وبشكل خاص الموقف التركي.
__________
إعداد: الجزيرة نت بالتعاون مع مركز رؤية للتنمية السياسية
إشراف: أسماء الزيات