ضم المقاطعات الأوكرانية: استعدوا لمستقبل كالح السواد!
أقل ما يعني الرئيس الروسي اليوم هو وصف ضمّه للمقاطعات الأوكرانية الأربع بـ«غير القانوني» أو بانتهاكه المواثيق الدولية والحدود المعترف بها. ويتضاءل اهتمام فلاديمير بوتين بالانتقادات الموجهة إلى خطوته تلك إذا جاءت من حكومات ودول، لم يترك نقيصة إلا نسبها إليها.
فبوتين أثبت مرّة تلو المرة الانتماء إلى مدرسة من التفكير الجيوسياسي تعود أصولها إلى القرن التاسع عشر. وساد اعتقاد منذ تسعينات القرن الماضي أن المدرسة تلك، التي تعطي القوة وموازينها والقدرة على فرض الإرادة السياسية بالقسر والإرغام والتهديد، مكانة رئيسية، قد انتهت بنهاية الحرب الباردة.
والحال أن الانتماء إلى المدرسة هذه من التفكير السياسي معروفة بل تجد من يشيد بها على غرار الأكاديمي الأميركي جون ميرشهايمر الذي دأب منذ ضم روسيا للقرم والحرب في الدونباس سنة 2014 على تبرير الموقف الروسي واتهام الغرب باستفزاز موسكو عبر دعمه توجهات أوكرانيا نحو الانضمام إلى حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي. وفي مقابلات ومقالات عدة، أعلن ميرشهايمر شعوره بالارتياح أثناء زيارته إلى موسكو (وبكين) حيث ما زالت تسود الأفكار التي يؤمن بها في مجال السياسات الدولية وصياغة العلاقات بين اللاعبين الدوليين بالاستناد إلى عوامل القوة والمنعة والمعطيات الجغرافية والإثنية والعسكرية وما شابه.
خطاب بوتين أثناء الحفل الذي أقامه في الكرملين بحضور الشخصيات البارزة في القيادة الروسية، كان في واقع الأمر استعراضا لكامل منظومة المفاهيم والآراء التي يرى الغرب أن زمانها قد أفل وأفلت معه صلاحيتها كمرجع عمل أو مرشد في إدارة الشأن الدولي. الاتهامات بممارسة الولايات المتحدة «الهيمنة الإمبريالية»، على سبيل المثال، ليست بالأمر الجديد لكنها تتعارض مع مقولات بوتين ذاته ومنظريه وأقطاب الدعاية لديه عن دخول أميركا مرحلة الانحطاط والتفكك الأخير. ويقيم هؤلاء الأدلة على ما يذهبون إليه في اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2020، وفي الانسحاب المهين من أفغانستان ومن تفاقم الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين على نحو أصاب جزءاً معتبرا من الحياة السياسية الأميركية بالشلل الكامل. يمكن، من دون عناء كبير، العثور على «مخرج نظري» إذا جاز التعبير، لهذا التعارض: الولايات المتحدة والغرب يستخدمان تفوقهما الاقتصادي وسيطرتهما على «صناعة الرأي العام» في العالم، لنشر قيم الانحطاط والتمييز والفصل العنصريين والمثلية. كل ذلك، بهدف تأبيد السيطرة الأميركية – الغربية وجني الأرباح من استعباد الدول الساعية إلى الاستقلال والسيادة، مثل روسيا وغيرها.
السؤال البسيط هنا، هل الحالة الأميركية في الوصف الروسي تصح على دولة ومجتمع يسيران نحو الانهيار أو على قوة عظمى تمارس الهيمنة الإمبريالية على العالم؟ هذا من دون البدء بنقاش أكثر راهنية عن الوصف الدقيق لغزو أراضي دولة مستقلة وضم أجزاء واسعة منها بذرائع ربما اتسم بعضها بالجدية، لكنها تخرج جميعها عن روح العصر وتنتمي بحق إلى الحقبة الإمبريالية. ناهيك من تاريخ إمبريالي لا يقل مأساوية شمل توسع روسيا نحو الشرق والجنوب والقضاء على إمارات وسط آسيا المسلمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر واستتباع دول القوقاز في سلسلة من الحروب الدموية والتدخلات الدبلوماسية المعقدة، إضافة إلى البلطيق ووصولا إلى فنلندا وبولندا. لكن ليس هذا ما يهم اليوم.
فالأمر الذي يشغل بال العالم هو البحث عن الخطوة التالية التي يخطط لها بوتين. حُكي في الأيام القليلة الماضية عن انخراط بيلاروسيا في الحرب وزجها 120 ألف جندي للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا وفتح جبهات جديدة تمتد مئات الكيلومترات على الحدود مع أوكرانيا. وانتشرت مخاوف عن إصدار بوتين، الذي يُعتقد أنه يشرف شخصيا على سير العمليات العسكرية، أوامر باللجوء إلى أسلحة غير تقليدية، قد تكون كيمياوية أو نووية تكتيكية، لتلقين القوات الأوكرانية درسا لا ينسى وتحميلها خسائر بشرية تصيبها بالكساح.
مهما يكن من أمر التكهنات هذه، فإن الواضح أن الإصرار على الحرب كخيار وحيد للتعامل مع الموقف في أوكرانيا ووسم كل الإجراءات والقوانين التي يصدرها الكرملين بسمات «الأبد» و«النهائي» و«التاريخي» على غرار اعتبار مواطني المناطق الأربع التي انضمت أو ضُمّت إلى الاتحاد الروسي، مواطنين روسا «إلى الأبد»، ما يعقد كل محاولات الحل السياسي والمبادرات الدولية على قلتها، ويجعلها في غاية الصعوبة.
«لغة جسد» بوتين أثناء إلقائه خطاب الضم والنبرة التي استخدمها لترسم بالأسود صورة الوضع الحالي والمستقبل، لا تترك مجالا للاعتقاد بإمكان تراجع الكرملين عن اعتماد الحرب خيارا وحيدا وهو ما يتلاقى مع تأكيدات كييف وحلفائها بأن الميدان هو المكان الذي سيحدد الكيفية التي ستنتهي الحرب فيها.