اقتصاد

بعد أكثر من 6 عقود على إنهائها.. هل عادت الإقطاعية الزراعية إلى العراق؟

يبدي بعض مزارعي العراق مخاوفهم من عودة نظام الإقطاع الزراعي إلى البلاد بعد عقود من القضاء عليه، إذ يقولون إن بعض المتنفذين يستولون على أراض زراعية شاسعة ويتحكمون في مواردها.

وأطلق المئات من مزارعي محافظة ديالى، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نداء استغاثة للحكومة العراقية والجهات المعنية لإنقاذهم مما سموه “الإقطاع والاستعباد” في كبرى مزارع المحافظة، عبر نظام إدارة المزرعة بالتنفيذ المباشر لسلب حقوق الفلاحين ومنحهم مخصصات رمزية من أرباح الإنتاج.

ورغم تأكيد عدد من المزارعين تعرضهم للاستغلال الإقطاعي واضطرارهم للقبول بنسبة 30% من الأرباح، بسبب عدم وجود سبل معيشية أخرى، وشح المياه الذي حرمهم من استغلال مساحات زراعية خارج مزارع المسؤولين التي تمتلك محطات ضخ موزعة على امتداد الأراضي وصولا إلى نهر دجلة، فإن مديرية زراعة ديالى تؤكد “عدم وجود استغلال، وهذا النظام تتعامل به الشركات منذ سنوات”.

ويكشف مدير إعلام زراعة ديالى، محمد المندلاوي، عن أن مزرعة “ناي” التي أثير الجدل حولها مؤخرا تعود لنائب رئيس الوزراء الأسبق، صالح المطلك، الذي استأجرها من الدولة قبل عام 2003، وتمتد مساحتها إلى آلاف الدونمات.

ويوضح المندلاوي -في حديثه للجزيرة نت- أن النسبة التي تمنحها الشركات تتراوح بين 25% إلى 30% أو مناصفة، حسب الاتفاق بين المزارع والشركة، مؤكدا بالقول “ولم تحصل أي مشاكل”.

ويعرب مدير إعلام زراعة ديالى عن اعتقاده “بوجود جهات تقف وراء ترويج مزاعم عودة الإقطاعية بلا أدلة، في محاولة للاستيلاء على بعض هذه الأراضي وبيعها، أو تقطيعها وتحويلها إلى مناطق سكنية”.

وينفي المندلاوي عودة الإقطاعية، مؤكدا أن هذه الشركات ساعدت العائلات الفقيرة على زراعة الأراضي؛ كونها لا تستطيع تأجير تلك الأراضي على حسابها، وأنها قانعة بالنسبة التي تحصل عليها، وهذا مختلف عن الإقطاعية التي لا تمنح المزارعين أي نسبة مقابل جهودهم.

النظام الإقطاعي في العراق

وعرف العراق النظام الإقطاعي منذ العهد العثماني، وهو نظام من العلاقات الاقتصادية الزراعية، حيث تكون الأرض وسيلة الإنتاج الرئيسة، وملكا لشخص واحد يسمى “الإقطاعي”، وفق الباحث والأكاديمي الدكتور حميد حسون نهاي.

ويضيف نهاي -في حديثه للجزيرة نت- أنه مع سيطرة البريطانيين على العراق عام 1914، فقد عملوا على تكريس النظام الإقطاعي لاستمالة زعماء القبائل وتعزيز نفوذهم.

ويبين الباحث أن البريطانيين تيقنوا بعد أكثر من 10 أعوام على وجودهم في العراق أن تكوين جهاز سياسي موال لهم في البلد لا يكفي لتثبيت مركزهم وحماية مصالحهم ما لم تدعم ذلك طبقة أو شريحة تشكل القاعدة الاجتماعية للجهاز المذكور، وتدين في الوقت نفسه لهم بالوجود وتتجه لهم بالولاء وترتبط بهم في المصير.

ويتابع “لقد كانت هذه المواصفات تنطبق أكثر ما تنطبق على شريحة رؤساء العشائر، الأكثر جهوزية والأوفر مقبولية لدى البريطانيين، إذ تم الاعتراف بالشيوخ متصرفين بالأراضي، لأن التعامل مع عدد قليل من الأشخاص أسهل بكثير من التعامل مع عدد كبير من الفلاحين”.

ويشير نهاي إلى أن “قانون التسوية” منح رؤساء العشائر حق السيطرة على أراضي القبيلة، وجاءت التسوية بنتائج كارثية على الفلاحين ووضعهم ومستقبلهم، بعد أن سُلبت منهم كل حقوقهم في أراضيهم وحولتهم إلى مجرد أناس لا يملكون إلا قوة العمل، فلم يكن غريبا أن تتردى أوضاعهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية إلى الحضيض.

4- المتحدث الإعلامي باسم مديرية زراعة ديالى نفى وجود استغلال للفلاحين في مزارع المحافظة - مديرية زراعة ديالى
مئات من مزارعي محافظة ديالى أطلقوا نداء استغاثة للحكومة العراقية والجهات المعنية لإنقاذهم مما سموه نظام “الإقطاع والاستعباد” (الجزيرة)

قانون برلماني

وكان العضو السابق في اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب العراقي، مازن الفيلي، حذر في فبراير/شباط 2021 من نشوء نظام إقطاعي جديد جراء بندين في مشروع الموازنة العامة.

وفي هذا الصدد، أكد عضو لجنة الزراعة في البرلمان النائب موفق شهاب باشا، للجزيرة نت، أن المادتين 41 و42 من مشروع قانون موازنة 2021 المتعلقة ببيع الأراضي الزراعية واستغلالها كانتا مقترحتين، ولم تمررا لخطورتها، خاصة أنهما طرحتا في وقت حكومة تصريف الأعمال السابقة، وكان الوضع الاقتصادي مرتبكا نتيجة ضعف الرقابة، ولأن هذه أملاك للدولة ولها قيمة عالية، فلا يمكن أن تعرض للبيع.

ويلفت باشا -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن الاستثمار وفق شروط مناسبة أمر جيد، وأفضل من الأرض البوار، حيث إن معظم المزارعين لديهم مساحات كبيرة لكنهم لا يزرعونها لعدم وجود إمكانية، معربا بالقول “يا حبّذا لو كان هناك استثمار حقيقي”.

اقرأ ايضاً
وزير النقل يعتمد اللائحة التنفيذية لنظام البريد

ويبيّن باشا أن خطورة القانون كانت في السماح بشراء حصة الدولة، ومنح المالك حق التصرف الكامل، وهذا فيه خطورة استغلال شخصي لهذه الأراضي، وذلك له تداعيات كبيرة كونه هدرا للمال العام ووجها من أوجه الفساد.

تداعيات خطيرة

وعن تداعيات عودة النظام الإقطاعي، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن المشهداني “سابقا كان الإقطاع يستحوذ على الأراضي بمساحات واسعة ربما تصل إلى 20 أو 30 ألف دونم، وانتهت تلك الحقبة بقوانين الإصلاح الزراعي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما تم توزيع الأراضي على الفلاحين”.

ويضيف -للجزيرة نت- أن هناك وجهات نظر مختلفة في هذا الموضوع، حيث إن قسما من الاقتصاديين يعتقد أنه لو كانت هذه الأراضي يمتلكها شخص واحد لكان من الممكن أنه يبقى الإنتاج الزراعي بمستوى عال، لكن تقسيمها إلى مساحات صغيرة وتوزيعها على عدد من الفلاحين أدى إلى انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية من المحاصيل المختلفة، خاصة الحبوب، وأدى إلى تفتيت آخر للمساحات بحكم التوريث.

ويرجح المشهداني عدم إمكانية عودة الإقطاع كما كانت، لانحسار هذه المساحات الزراعية الكبيرة التي يتحدث عنها بعض النواب، كما أن النظام الفلاحي اليوم اختلف كثيرا، لأن معظم الفلاحين هجروا أراضيهم بسبب شح المياه وعدم قدرتهم على منافسة المحاصيل المستوردة، مما اضطرهم إلى ترك الزراعة، في حين هاجر قسم كبير منهم باتجاه المدن.

وبخصوص الأراضي التابعة للدولة، يشير المشهداني إلى أنها مزارع حكومية مؤجرة، وفكرت الحكومة بعهد وزير المالية السابق بالتخلص من القطاع العام وبيع هذه الأراضي، لكن البعض كان يعتقد أن هذه واحدة من صور الإقطاع الجديد، وهذه النقطة محط خلاف.

ويؤكد أن القطاع الزراعي -في الأساس- يعاني مشاكل كثيرة، منها شح المياه وارتفاع معدلات الملوحة وتحول المزارع إلى صحاري وأرض جافة، وهذا سبب خسائر كبيرة للعراق نتيجة خروج هذه الأراضي عن نطاق الاستخدام.

وينبه المشهداني إلى أن وزارة الزراعة قررت العام الماضي تخفيض المساحات المزروعة إلى 50% من محاصيل الحبوب، والعام الحالي أضافوا 15% ( أي أصبح الانخفاض بنسبة 65%)، فأصبحت الزراعة محدودة بمساحة لا تتجاوز 35% من الأراضي الصالحة.

وعن تداعيات عودة الإقطاعيات، يشير المشهداني إلى وجود وجهتي نظر مختلفتين، الأولى تعتقد أن عودة الإقطاع للمساحات الكبيرة يسهم في تنشيط الزراعة الواسعة واستثمار الأراضي بشكل كبير، بحكم أن هؤلاء الإقطاعيين رجال أعمال ومستثمرون ويمتلكون المال ولديهم قدرة على إدخال التكنولوجيا الحديثة والمكائن والمعدات، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية ويسد جزءا كبيرا من حاجة السوق المحلية.

وعلى الجانب الآخر، يرى البعض -حسب المشهداني- أن الإقطاع من حقبة الأنظمة الاستبدادية الرأسمالية التي كانت مهيمنة قبل 1958، وأنه أحد صور النظام الملكي آنذاك باعتبار أن هذه الإقطاعيات منحها الإنجليز لزعماء القبائل الموالية لهم.

ويعتقد المشهداني أن عودة الإقطاع بصورته القديمة من خلال استغلال الفلاح أبشع استغلال، حيث يعمل الفلاح على أمل الحصول على جزء يسير من الإنتاج يسد به حاجة عائلته من القوت اليومي، مستبعدا إمكانية عودة الإقطاع بصورته القديمة، لأن القوانين اختلفت كثيرا، ولم يعد العمل محصورا في الزراعة ويستطيع الفلاحون ترك الزراعة والانخراط في وظائف أخرى.

3- مديرية زراعة ديالى أكدت بأن النظام المعمول في مزرعة "ناي" التي أثارت الجدل بأنه نظام تعمل به كثير من الشركات - مديرية زراعة ديالى
تداعيات النظام الإقطاعي تسببت في توليد موجة غضب شعبي بدأت تتصاعد بشكل تدريجي (الجزيرة)

الإطاحة بالإقطاع

وتسببت تداعيات النظام الإقطاعي في توليد موجة غضب شعبي بدأت تتصاعد بشكل تدريجي، كونه السبب الأساسي في الهجرات من وسط العراق وجنوبه إلى بغداد آنذاك، وفق المحلل والأكاديمي عقيل عباس.

ويضيف عباس -للجزيرة نت- أن النظام الإقطاعي انتهى بالقانون، بعد أن أطاح عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي عام 1958، ومرر قانون الإصلاح الزراعي، وجاءت الحكومات الأخرى وأضافت لقانون الإصلاح الزراعي، وحددت الملكية العليا للأرض بـ400 دونم، منعا لعودة النظام الإقطاعي.

ويشير عباس إلى أن النظام الإقطاعي تفكك مع صعود الدولة ذات الطابع الاشتراكي، مما أدى تدريجيا إلى تراجع الإنتاج الزراعي، وهذا دفع البعض للقول بأن تفكيك الإقطاعية هي التي أدت إلى تراجع الإنتاج الزراعي، لكن هناك من يشكك بهذا الرأي.

ويرى عباس أن وجهة النظر الأكثر عقلانية التي تدعمها بحوث هي أن صعود النظام الاشتراكي والريعي، وانتشار العمل لدى الدولة والتوظيف الواسع وصعود الريع النفطي، هو ما جعل الزراعة لم تعد مغرية اقتصاديا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى