تكافل بمواجهة “تجار الحرب”.. الغلاء يعصف بالنازحين في غزة
غزة – لم يجد “أبو شاكر” سوى طهي الطعام وتوزيعه بالمجان لمساعدة نازحين من شمال قطاع غزة لجؤوا إلى مستشفى ناصر الحكومي بمدينة خان يونس، ويعيشون ظروفا إنسانية قاسية، نتيجة عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من الشهر الماضي.
تألم محمد سهود الملقب بـ”أبي شاكر” لحالة النازحين في هذا المستشفى جنوب قطاع غزة، وأطلق مع متطوعين من أصدقائه مبادرة خيرية، تقوم على طبخ الطعام على نار الحطب، في ظل أزمة حادة في غاز الطهي.
يقول أبو شاكر للجزيرة نت عن النازحين إنهم “ضيوف أعزاء، بعدما أجبرهم الاحتلال على هجر منازلهم، وقد خلفوا وراءهم أموالهم وممتلكاتهم، ونزح غالبيتهم بالملابس التي يرتدوها، ويواجهون ظروفا قاسية بسبب شح المواد والسلع وارتفاع جنوني بالأسعار”.
وتوفر مبادرة أبو شاكر، الممولة من فاعلي خير، الطعام منذ 11 يوما لنحو 100 أسرة مكونة من 400 إلى 500 فرد، في ساحات ومرافق مستشفى ناصر، إضافة إلى نازحين يقيمون في مدارس محيطة بالمستشفى.
ما حدث مع أبي شاكر اليوم يؤشر على تفاصيل دقيقة من المعاناة التي تعصف بسكان غزة، فقد اضطر إلى تغيير نوعية الطعام الذي كان ينوي إعداده للنازحين، بعدما عجز عن توفير ملح الطعام، ويقول “نواجه مصاعب وتحديات كبيرة في توفير المواد ومتطلبات الطبخ لندرتها وللارتفاع الكبير في أسعار المتوفر منها”.
تكافل
وتعصف بالغزيين أزمة حادة ومركبة، ناجمة عن شح السيولة والارتفاع المهول في أسعار ضربت بقوة كل تفاصيل الحياة اليومية، نتيجة الحرب الإسرائيلية التي أوقفت عجلة الاقتصاد وتسببت في “شلل” شبه تام في القطاع الساحلي الصغير، الذي يعاني غالبية سكانه (2.2 مليون نسمة) من معدلات هائلة في الفقر والبطالة.
وفي مقابل حالة من الجشع أصابت من يصفهم الغزيون بـ”تجار الدم والحرب”، مع غياب الرقابة الرسمية على حركة التجارة والأسواق، فإن مبادرات خيرية وطوعية كمبادرة أبي شاكر ورفاقه، تمثل جانبا مشرقا، لكن لا يمكنها إنهاء معاناة الكتلة السكانية الأكبر التي تتكدس حاليا في مدن جنوب القطاع، نتيجة موجات النزوح الاضطراري من الشمال.
وتقدر منظمات دولية أن الحرب تسببت في نزوح 80% من سكان القطاع، يقدر عددهم بنحو مليون و600 ألف نسمة، أكثر من مليون منهم يقيمون في مراكز إيواء تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومدارس حكومية ومرافق عامة.
في مخيم الشابورة بمدينة رفح جنوب القطاع، يبادر محمد عدوان لتوزيع ألف لتر من مياه الشرب على جيرانه والمحتاجين في منطقته، ويقول للجزيرة نت إنه يشتري خزانا سعته ألفي لتر من محطة تحلية مياه، يصله بواسطة سيارة نقل، يأخذ منه ألف لتر له ولأشقائه وأسرهم في البناية السكنية، ويوزع نصفه الآخر بالمجان.
وفي ظل أزمة مياه حادة، ارتفعت أسعارها 4 أضعاف عما كانت عليه قبل العدوان الإسرائيلي، ويقول محمد عدوان إن سعر ألف لتر من مياه الشرب كان يتراوح بين 20 إلى 25 شيكل، في حين ارتفع خلال الحرب ليصل إلى 100 شيكل (حوالي 30 دولار).
ويتشارك عدوان مع أشقائه في توفير المياه لأسرهم المكونة من نحو 30 فردا، وكسب الأجر بتوزيع باقي الكمية، قائلا “يجب أن نشعر ببعضنا لتجاوز الأزمة وعدم الانكسار أمام الاحتلال وجشع التجار”.
ويعمل عدوان موظفا حكوميا، وكغيره من الموظفين لم يتلق راتبه منذ شهرين، وهو أحد أسباب شح السيولة التي حددها رئيس قسم الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية الدكتور نائل موسى.
أسباب الأزمة
في حديثه للجزيرة نت، أوضح الدكتور موسى أن السيولة جزء مهم في تحديد الأسعار، وما يعمق الأزمة أكثر في غزة عدم توفر السلع، نتيجة الحرب والحصار المطبق، حيث كثير من أصناف السلع والبضائع أقل بكثير من المطلوب، الأمر الذي ينعكس بشكل حاد على حياة المواطنين، خاصة البسطاء منهم، الذين لا يتوفر لديهم نقود، في حين أسعار المتوفر من السلع مرتفعة للغاية.
ويحدد الأكاديمي الاقتصادي أسباب شح السيولة في غزة، بتوقف المصادر المالية جراء الحرب والحصار، إذ انقطع آلاف العمال عن أعمالهم، وتأخرت رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص، وتوقفت التجارة الخارجية وحركة التصدير، وتوقفت البنوك عن العمل، وتراجعت المساعدات الخارجية.
وإضافة إلى هذه الأسباب -يقول موسى- إن هناك سببا آخر مرتبط بالغارات الجوية على المنازل وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، بما تحتويه من أموال ضاعت تحت الأنقاض، وبالتالي فقد السوق السيولة المتوفرة بين أيادي الناس.
ويشير هذا السبب إلى عادة سائدة لدى قطاع واسع من الناس في غزة، ممن يفضلون الاحتفاظ بأموالهم بمنازلهم وبطريقتهم الخاصة، وعدم إيداعها في البنوك.
وقال موسى إن الحرب تركت آثارها المدمرة على مختلف نواحي الحياة، بما فيها القطاع المالي والاقتصادي، وبسببها توقفت التحويلات المالية الخارجية، التي كانت تشكل رافدا مهما للسيولة النقدية، موضحا أن شح السيولة يؤدي إلى انخفاض الأسعار، لكنه في حالة غزة الأمر مختلف، حيث ترافق مع شح في السلع، فأدى إلى الارتفاع المهول في الأسعار، وضغط ذلك أكثر على الحياة اليومية للمواطن.
نصائح استثنائية
في هذا السياق، ينصح الأكاديمي الاقتصادي الغزيين بالصبر وتحديد أولويات الاحتياجات اليومية، مستدركا “لكن هذا لا يعفي تجار الحروب من المسؤولية ووجوب محاكمتهم، غزة في حالة حرب، وإذا لم يكن هناك بعد أخلاقي لدى جميع الأطراف، فإن الضرر الأكبر يلحق بالفقراء، ويزدادون فقرا، وتنضاف إليهم شرائح فقر جديدة”.
في المقابل تعمل أم محمد -وهي أرملة تعيل أسرة من 6 أفراد- بمبدأ تحديد الأولويات مجبرة على ذلك، وفق ما تفرضه الأسعار المتغيرة يوميا، مضيفة “أشتري ما يناسبني سعره، وبكمية قليلة على قدر الحاجة اليومية”.
وتقاطع أم محمد، التي تتلقى مساعدات تقدمها الشؤون الاجتماعية، الكثير من السلع والمواد الغذائية منذ الأسبوع الثاني للحرب، وضربت مثالا بطبق بيض الدجاج (30 بيضة) الذي ارتفع سعره من 18 شيكلا إلى 40 شيكلا (حوالي 11 دولارا).
وتتغير أسعار كافة السلع والاحتياجات المختلفة في الأسواق والمحال التجارية، بشكل مضطرد، ولم تفلح المساعدات الواردة عبر معبر رفح البري بموجب اتفاق الهدنة المؤقتة في وضع حد لتدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية للغزيين.
وتقول السلطات المحلية في غزة إن هذه المساعدات شحيحة للغاية، ووتيرة تدفقها بطيئة، وحسب مدير “المكتب الإعلامي الحكومي” إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت، فإن المواطن في غزة لم يلمس أثرا لهذه المساعدات على حياته.
ومنذ دخول اتفاق الهدنة حيز التنفيذ صباح الجمعة الماضي، يرد عبر معبر رفح نحو 200 شاحنة يوميا، يغلب على حمولتها المواد الغذائية المعلبة، وعبوات مياه للشرب، ومستهلكات طبية، إضافة إلى 4 شاحنات (84 طنا من غاز الطهي)، وكميات من الوقود للأونروا.
ومنذ بداية العدوان، تغلق إسرائيل معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، وكان يمر عبره قبل اندلاع الحرب حوالي 500 شاحنة باحتياجات مختلفة، إضافة إلى كميات تكفي استهلاك سكان غزة اليومي من الوقود وغاز الطهي.