ما أصل الحكاية التي أشعلت المظاهرات الدامية في بنغلاديش؟
داكا- بدأ الهدوء يعود إلى العاصمة البنغلاديشية داكا بعد بضعة أيام عصيبة امتدت من الأربعاء إلى الأحد الماضيين، راح ضحيتها أكثر من 170 قتيلا وآلاف الجرحى من الطلبة ومتظاهرين معارضين ومن القوات الأمنية، واعتقال نحو 1400.
ورغم أن السنوات الـ15 من حكم رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد قد شهدت مظاهرات متكررة للمعارضة، فإن الأمر لم يصل إلى ما عاشته بنغلاديش الأسبوع الماضي.
توقف العنف، ولم تعد هناك مواجهات، لكن الحياة الاقتصادية والاجتماعية لم تتعاف بعد بشكل كلي وقد يحتاج ذلك لوقت كما قال قائد الجيش الجنرال وقار الزمان، الذي أكد أن قواته، التي تدخلت مؤخرا، قد سيطرت على الوضع الأمني خلال يومين، مشيرا إلى أن البلاد ستحتاج إلى إصلاح ما تضرر في البنية التحتية ومؤسساتها الرسمية.
أضرار
ومن أبرز ما تضرر مباني التلفزيون الرسمي وعدد من المقرات الوزارية والأمنية، والمركز الوطني للمعلومات ومزودات وموصلات الإنترنت التي انقطعت عن البلاد لبضعة أيام عازلة بنغلاديش عن العالم. وما زالت محاولات إرجاعها -تدريجيا- سارية، وهو ما يعني توقف الخدمات المالية ومنظومات الخدمات العامة وشحن الموانئ والأعمال التجارية الإلكترونية.
وكانت داكا -التي يتجاوز عدد سكانها 20 مليون نسمة- قد عادت إلى التواصل عبر خطوط الإنترنت الثابتة في المنازل والمكاتب في بعض المناطق دون غيرها لنحو 3 ساعات مساء أمس الثلاثاء، ثم انقطع التواصل مجددا.
ويُتوقع إصلاح الأمر خلال الأيام المقبلة، في حين يظل تواصل الإنترنت عبر الهواتف المحمولة منقطعا حتى الآن، كما أن الاتصالات الهاتفية ضعيفة ومتقطعة أيضا، ويتهم معارضون الحكومة بتعمد قطع الإنترنت لوقف بث صور المظاهرات، وليتسنى لها السيطرة على الوضع الأمني ومواجهة المظاهرات.
وحتى كتابة هذه السطور، ما زال حظر التجوال في بنغلاديش قائما، لكنه آخذ بالتخفيف لعدة ساعات بين الظهر والعصر، وقد بدأت بعض مؤسسات الدولة، اليوم الأربعاء، بالعمل لساعات قليلة. لكن النشاط الاقتصادي الأهم للبلاد من صناعة وتصدير ما زال متأثرا بشكل سلبي منذ نحو أسبوع، ويتطلع رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات الكبرى إلى عودة الأمور إلى مجراها قريبا.
واندلعت المظاهرات الطلابية بشكل مفاجئ، إثر حكم قضائي للمحكمة العليا في داكا في الخامس من يونيو/حزيران الماضي يعيد العمل بحجز نسبة 30% من الوظائف الحكومية الجديدة لأبناء وأحفاد المحاربين القدامى الذين قاتلوا في حرب استقلال بنغلاديش عن باكستان عام 1971.
كما يقضي بحجز نسبة 26% لفئات غيرهم، وذلك استجابة لمرافعة تقدم بها 7 من أبناء وأحفاد تلك الأسر. وهو قرار -كما تقول مصادر للجزيرة نت- فاجأ الساسة قبل الطلبة، لعلمهم بحساسية ذلك الموضوع المرتبط بتوظيف الشباب المتخرج من الجامعات والساعي لمستقبل أفضل.
وخرج الطلاب في الجامعات الحكومية والأهلية غاضبين في مظاهرات استمرت أسابيع، قبل أن تتحول إلى مواجهات دامية، انضم إليها متظاهرون معارضون في مواجهة الأجهزة الأمنية إلى جانب آخرين من شباب أو طلاب الحزب الحاكم، كما يقول كثيرون ممن تحدثت الجزيرة نت إليهم في داكا.
أصل الحكاية
حسب المتحدث الإعلامي والسكرتير الصحفي لرئاسة الوزراء محمد نعيم الإسلام خان، فإن أصل الحكاية لم يكن من جانب الحكومة لأنها ألغت العمل بنظام “الكوتا” أو حجز نسبة معينة من الوظائف الحكومية لفئة معينة منذ عام 2018، والتي كان معمولا بها بنسبة عالية تصل إلى 56%، ومنها الثلث لأُسر المحاربين القدامى، و10% للنساء، و10% لسكان المناطق الأقل نموا، و5% للأقليات، و1% لذوي الاحتياجات الخاصة.
ويوضح -للجزيرة نت- أن سبب الإلغاء أنه وخلال 9 مواسم من امتحانات القبول في الوظائف الحكومية قبل 2018، بدا أن تطبيقه صعب للغاية، حيث كانت تُجرى امتحانات للخريجين الجدد من شباب وفتيات بنغلاديش. وتستخلص 3 امتحانات تحريرية وشفهية مجموعة هي الأفضل والأكفأ منهم، دون النظر إلى فئة معينة كأبناء أو أحفاد المحاربين القدامى أو الأقليات أو النساء أو غيرهم.
ويتابع أن دور “الكوتا” كان يستدعي أن يعمل بها فقط من بين أولئك الذين تجاوزوا الامتحانات، فتبين للحكومة أنه لا يمكن أن تتجاوز تلك النسبة 8%، حيث لا يتوفر ذلك العدد من الناجحين من بين تلك الفئات ليغطي نسبة تصل إلى 30 أو 56%.
وأضاف نعيم الإسلام أن الحكومة ظلت -خلال ذلك العقد- تعيد بقية النسبة لعامة الشباب دون تخصيص لأن كثيرا من أُسر المحاربين القدامى من سكان الريف وليسوا من المتعلمين، ولذلك ألغت تلك النسبة واعتمدت بعدها على قبول ذوي الكفاءة.
لكن المفاجأة كانت أن المحكمة العليا وبعد نحو 6 أعوام من إلغاء ذلك النظام، أعادته الشهر الماضي، ليشتعل غضب الطلبة والمعارضة، فسارعت محكمة التمييز -وبعد 7 أيام- إلى وقف العمل بالقرار أو تجميده، كما يوضح نعيم الإسلام.
وأصبحت المظاهرات دامية بعد أن جُمد العمل بذلك القرار، ثم أُلغي نهائيا يوم الأحد الماضي بعد مرافعة من الحكومة تقدمت بها لدى محكمة التمييز لإنهاء هذا المشهد الذي أثر على الحياة العامة.
اللافت في الأمر أن محكمة التمييز ألغت تلك النسب العالية من تخصيص الوظائف وحددتها بـ5% فقط لأبناء المحاربين القدامى، و1% للأقليات، و1% لذوي الاحتياجات الخاصة، لاغية أي نسبة متعلقة بالنساء أو بغيرهن من فئات المجتمع. وبقيت الأغلبية الساحقة من وظائف الدولة -وبنسبة 93%- معتمدة على الجدارة والكفاءة لمن ينجح في امتحانات القبول.
سيناريو ربيع بنغلاديشي
وبعد توقف المواجهات وإلغاء القرار، تعالت أصوات بضرورة التحقيق فيما حصل، وفي حيثيات مقتل عشرات الأشخاص، وفيما تراه المعارضة قمعا للمتظاهرين الشباب، وهو ما حُمّلت مسؤوليته لعدد من القضاة في المحكمة العليا، لكن لا يُعرف إن كان الطلبة والمعارضون سيقبلون نتائج ذلك التحقيق أم لا في حال صدوره خلال 30 يوما.
ويقول صلاح الدين شعيب تشودري، رئيس تحرير صحيفة “بليتز” البنغلاديشية، إن ما حصل من مظاهرات طلابية في البداية، تطور بشكل سريع الأسبوع الماضي ليصبح مشهدا داميا.
وأشار إلى ما تحدث به رجال أعمال وأصحاب مصانع وشركات كبرى في البلاد في اجتماع حاشد لهم، الاثنين الماضي، معبرين فيه عن قلقهم على الأعمال الصناعية والتجارية التي تتجاوز قيمتها 120 مليار دولار، في بلد يصل عدد سكانه إلى نحو 170 مليون نسمة.
ويمتد الضرر المعيشي ليشمل الفقراء ممن يعيشون على الأجر اليومي، من العمال والفلاحين وأصحاب المتاجر الصغيرة والأعمال المتوسطة الأخرى، وغيرهم من موظفي الطبقة المتوسطة والمتعلمة في الشركات الخاصة.
كما لم يستطع مئات الآلاف من البنغلاديشيين المغتربين تحويل أموال إلى أسرهم في داكا، ناهيك عن توقف الدراسة في المدارس والجامعات، وبدء ارتفاع أسعار المواد الأولية بسبب توقف حركة النقل والمواصلات التجارية بنسبة كبيرة بين المدن والموانئ والأرياف.
ويتطلع البنغلاديشيون إلى تفعيل شبكة الإنترنت تدريجيا خلال الأيام المقبلة، وتشغيل خدمات تسديد فواتير الخدمات كالكهرباء والمياه. كما توقف عمل المصارف والإدارات المحلية في المقاطعات وانقطعت عن التواصل مع العاصمة والوزارات، ويصف تشودري المشهد بالتحدي الأمني والاقتصادي الكبير الذي يواجه الدولة خلال الأيام الماضية وما زال.
ويشير إلى ما سمعه البنغلاديشيون في السابق من مصادر غربية من أن “ربيعا بنغلاديشيا” سيحصل يوما، على غرار “الربيع العربي”، بالربط بين الحراك الطلابي والنشاط الحزبي المعارض وتحركات أخرى، رغم صدور قرار محكمة التمييز، مما دفع الأجهزة الأمنية وقوات الجيش إلى مواجهته وإعادة الأمور إلى مجراها، على حد وصفه.
وبخصوص جدلية “الكوتا”، يقول تشودري إنه لا يؤيد تخصيص أي نسبة من وظائف الدولة لأي فئة سياسية أو اجتماعية. ويؤكد أن الأفضل هو اعتماد الجدارة العلمية في توظيف الشباب لضمان كفاءات الشباب الخريجين من عموم أبناء البلاد في المؤسسات الرسمية.