المرضى النفسيون في غزة يئنون بصمت بفعل الحرب والحصار
غزة- على مكتب خشبي متواضع في غرفة صغيرة بمجمع ناصر الطبي، تجلس الطبيبة النفسية هدى أبو نمر، تستمع لمراجعين ومرضى فتكت بهم الحرب، وتجتهد في كتابة وصفات علاجية بالقليل من الأدوية المتوفرة.
تحولت هذه الغرفة بالطابق الأول من “مبنى الياسين” في مجمع ناصر الطبي إلى عيادة طب نفسي، مزدحمة طوال الوقت، لكونها الوحيدة في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، التي تؤوي زهاء مليون و200 ألف نسمة من سكانها والنازحين إليها.
اقرأ أيضا
list of 2 items
3 سيناريوهات قادمة ستحدد مستقبل المنطقة
مظاهرات تطوف العالم دعما لغزة في ذكرى الحرب
end of list
تقول الطبيبة هدى للجزيرة نت إنها تستقبل يوميا حالات كثيرة من المرضى، لكنهم ليسوا جميعا من مرتادي مراكز وعيادات الطب النفسي السابقين، وإنما من بينهم حالات جديدة أصيبت بأمراض تصنف أنها نفسية، مرتبطة بتداعيات الحرب الإسرائيلية الضارية الدائرة في القطاع منذ نحو عام.
مرضى حرب
لا تقتصر الأمراض النفسية المرتبطة بالحرب على فئة أو جنس أو عمر معين، حيث تستقبل الطبيبة هدى، المرضى الجدد الذين يعانون من صدمات نفسية، ومن بينهم مرضى في سن الشباب، خاض الكثير منهم تجربة اعتقال قاسية أو تعذيب شديد، وخرجوا محملين بأمراض جسدية ونفسية، بينما تعاني النساء من أمراض نفسية يكون مردها الفقد، كمن فقدت زوجا أو ابنا أو أكثر، وهناك من فقدت عائلتها بأكملها.
وإضافة إلى هؤلاء، تقول الطبيبة أبو نمر إنه يتردد على العيادة أطفال يعانون من التبول اللاإرادي والتبول الليلي والقلق وعدم القدرة على النوم، بفعل الصدمات العنيفة التي تعرضوا لها وهول ما شاهدوه وعايشوه خلال شهور الحرب، وتجارب النزوح القاسية.
وهناك حالات مرضية مزمنة تدهورت وزادت سوءًا بسبب أهوال الحرب، وانهيار منظومة الطب النفسي وعدم توفر غالبية الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، الأمر الذي تسبب لهم بنوبات غضب، وبعضهم يشكلون خطرا شديدا على أنفسهم وعلى الغير، قد يصل إلى حد الاعتداء الجسدي، وفقا للطبيبة.
ونتيجة نقص الأدوية تلجأ هذه الطبيبة الشابة إلى ما وصفته بـ”الأدوية البديلة”، وهي ليست بالضرورة من عائلة الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، وإنما إجراء اضطراري للتغلب على حدة أزمة عدم توفر غالبية أصناف الأدوية.
نقص الأدوية
وبينما كانت الطبيبة هدى تتحدث للجزيرة نت، حضر زياد (اسم مستعار)، الذي يرتاد عيادات الطب النفسي منذ عام 2007 جراء صدمة نفسية تعرض لها آنذاك، ويعاني بشدة منذ اندلاع الحرب نتيجة عدم توفر الأدوية التي اعتاد عليها لسنوات.
فمن بين 4 أصناف علاجية يحتاجها زياد (57 عاما) منحته الطبيبة هدى نصف الكمية من صنف دوائي واحد، ويقول هذا المريض للجزيرة نت، وقد بدا واعيًا بما يقول ومدركًا لحالته الصحية، إن هذه الكمية غير كافية، ويخشى انتكاسة إذا طال أمد الحرب وهو الذي تحسنت حالته بعد سنوات من العلاج.
وتعرض زياد -وهو رب أسرة- لصدمات شديدة خلال الحرب، جراء تدمير الاحتلال منزله المكون من 4 طبقات في بلدة عبسان الصغيرة، ويبعد نحو 800 متر عن السياج الأمني الإسرائيلي شرق مدينة خان يونس، ويقدر قيمة ما خسره جراء هذا التدمير بأكثر من 300 ألف دولار، إضافة لأثاث المنزل وكافة محتوياته.
وخاض زياد تجربة النزوح 12 مرة، بدأت منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما غادر منزله الذي بات أثرًا من بعد عين، وتنقّل في مناطق عدة وتشتت عائلته، وقد أصيبت ابنته المتزوجة بجروح في منطقة الحوض جراء شظية صاروخ باستهداف إسرائيلي لمركز إيواء.
وفي حادثة ثانية تسببت شظايا صواريخ إسرائيلية متناثرة في إحراق خيام لزياد وعائلته في مدينة خان يونس، وتسببت في خسارة كل محتوياتها، وضياع مَصوغ ذهبي خاص بابنته المخطوبة.
وبوعي كبير يقول هذا الرجل “إن استمرار هذه الحرب يشكل خطرا على حياة جميع المرضى وخاصة المرضى النفسيين، وإن الضغوط الشديدة جراء القتل والنزوح ستزيد من أعدادهم في القطاع، وستظهر الآثار الخطيرة على السكان بعد توقف الحرب”.
استهداف الصحة النفسية
ما قاله زياد بعفوية يسنده الرأي الطبي لمدير عام الصحة النفسية المجتمعية بوزارة الصحة الدكتور خليل شقفة، إذ يؤكد في حديثه للجزيرة نت أن حجم الاحتياج كبير لعيادات ومراكز الطب النفسي جراء هذه الحرب غير المسبوقة، والتي طال أثرها كل الفئات دون استثناء.
ويؤمن الدكتور شقفة أن الاحتلال استهدف بشكل ممنهج ومقصود الصحة النفسية للغزيين، من أجل العبث باستقرارهم النفسي، من خلال منع أدوية الطب النفسي التي يكاد يكون رصيدها صفرا، حيث تهدف هذه السياسة الإسرائيلية لزيادة التوتر والعصبية والعدائية بالمجتمع.
وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن ما بين 40% إلى 60% من الأدوية الأساسية غير متوفرة نهائيا، ومن ضمنها أدوية الطب النفسي، ويوضح الدكتور شقفة أن قائمة أدوية الطب النفسي الأساسية صغيرة، وتتراوح ما بين 40 إلى 50 صنفا، فيما تصل القائمة الإجمالية لكل أدوية الطب النفسي إلى 150 صنفا، ويقول “لم نمتلك منها بأحسن الأحوال أكثر من 60 صنفا منذ تشديد الحصار على القطاع عام 2007”.
وإلى جانب منع توريد الأدوية، يدلل الدكتور شقفة على الاستهداف الممنهج لمنظومة الطب النفسي في القطاع باستشهاد 14 وإصابة آخرين من الكوادر الطبية، وبخروج 6 مراكز للصحة النفسية عن الخدمة، كانت تقدم الخدمات لمئات المراجعين والمرضى يوميا من خلال عيادات وصيدليات لصرف الأدوية.
علاوة على “مستشفى الطب النفسي” الوحيد على مستوى القطاع المخصص لمبيت المرضى، وكان يؤوي عند اندلاع الحرب 30 مريضا بصورة دائمة داخله، كان عدد منهم داخل قسم العزل لخطورة حالتهم الصحية، إلا أن هذا المستشفى استهدف بشكل مباشر بقذيفة أصابت إحدى طبقاته فخرج عن الخدمة.
وبفعل ذلك، بات المرضى في الشوارع، ويشكلون -بحسب الدكتور شقفة- خطرا كبيرا على أنفسهم وعلى الآخرين في المجتمع، موضحا أن مثل هؤلاء المرضى قد يتحولون في أي لحظة إلى “شخصيات عدائية”، ويلحق المريض في هذه الحالة الأذى بنفسه أو بالآخرين، وقد حرمتهم الحرب من المتابعة الطبية والأدوية.
وقال الدكتور شقفة إن مصير هؤلاء المرضى مجهول، وقد وصلتنا معلومات عن حوادث عدائية من عدد منهم داخل الخيام ومراكز النزوح، وإضافة لذلك نكتشف باستمرار داخل العيادات حالات تحتاج للعلاج وربما للتنويم، ولا نجد لها أماكن.