بناها سوركتي وسوكارنو.. أزمة الطلبة الإندونيسيين في السودان تفتح ملف العلاقة التاريخية بين البلدين
جاكرتا- مع استمرار الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تتضاءل آمال عودة مئات الطلاب الإندونيسيين الذين كانوا يدرسون في جامعات سودانية مرة أخرى.
ويقول مسؤول اتحاد الطلاب الإندونيسيين في السودان عماد عقل، إن معظم مدرسيهم السودانيين ما زالوا نازحين أو لاجئين، فيما يتواصل إغلاق الجامعات في السودان، مترقبا لقاءات مع مسؤولين في وزارتي التعليم والشؤون الدينية في إندونيسيا، لتسهيل احتواء مئات من الطلبة العائدين من السودان، الذين يتجاوز عددهم 800.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف عماد -من محافظة سيرانغ في إقليم بانتن الإندونيسي- أنه يسعى وزملاؤه لاستكمال الدراسة في جامعات إندونيسية حكومية أو خاصة، مشيرا إلى أن بعض الجامعات المحلية أبدت استعدادا للترحيب بهم وتسهيل استكمال الدراسة، ومعظمها في تخصصات شرعية وأدبية.
وينشغل بعض الطلاب العائدين إلى قراهم بفعاليات تعليمية وثقافية ريثما يتضح مستقبلهم التعليمي، وكثير منهم كان على وشك التخرج، ومنهم محمد شاهيران، الذي قال للجزيرة نت إنه التقى عضوا في المجلس التشريعي المحلي لإقليم “آتشيه” ووعده بتسهيل إكمال دراسته في جامعة دينية حكومية محلية.
وكان الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو قد أعلن أن حكومته أجلت 969 إندونيسيا من السودان، الذي يعد بلدا مفضلا للباحثين عن تحسين معرفتهم باللغة العربية أو العلوم الشرعية والأدبية.
وتسلط أزمة الطلاب الإندونيسيين في السودان، الضوء على واقع وتاريخ العلاقة بين البلدين، حيث يتفق الباحثون في هذا الشأن على أن أول بذرة للعلاقة بين إندونيسيا والسودان كانت مطلع القرن الماضي قبل استقلال البلدين عن الاستعمار بعقود، وذلك من خلال العالم أحمد بن محمد سوركتي الأنصاري الذي قدم إلى إندونيسيا لتعليم الدين واللغة العربية.
سوركتي من مواليد جزيرة أرقو بالولاية الشمالية في السودان عام 1875، بحسب رئيس مجلس التعاون والعلاقات الخارجية في “جمعية الإرشاد الإسلامية” زكي صالح النهدي.
ويوضح رئيس الجالية السودانية في إندونيسيا أيمن أحمد محمد سعيد، أن الشيخ سوركتي جاء مبتعثا من الملك عبد العزيز آل سعود عام 1911، بعد أن طلب عدد من أعيان عرب إندونيسيا أساتذة لتعليم العلوم الشرعية واللغة العربية، فكانت رحلة سوركتي الأولى ومعه معلمان اثنان آخران هما الشيخ محمد الطيب المغربي، والشيخ محمد عبد الحميد السوداني، حيث قاموا بدور مؤثر في رفع مستوى التعليم بمدارس جمعية الخير في جاكرتا ومحافظة بوغور جنوبا، لنحو 3 سنوات.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف سعيد أن الشيخ سوركتي عاد إلى مكة المكرمة والسوادان، ليأتي إلى إندونيسيا مرة أخرى ومعه بعض من أقربائه ومعظمهم من المعلمين، وذلك بعد أن طالب بعودته لاستكمال مسيرته التعليمية والعلمية عدد من حضارمة جزيرة جاوا الإندونيسية.
سوركتي وتأسيس الإرشاد
يؤكد زكي صالح النهدي أن الشيخ سوركتي قد ترك انطباعا تاريخيا وأثرا حاضرا، من خلاله رحلته العلمية من السودان إلى مكة، ثم إلى إندونيسيا، وتأسيسه مع عدد من الشخصيات الحضرمية “جمعية الإصلاح والإرشاد الإسلامية” عام 1914.
وفي السنوات الأولى فتحت الجمعية فروعا عدة في جزيرة جاوا، لتصبح فيما بعد ضمن تيار “إصلاحي ثلاثي” تمثله جمعيات: الإرشاد، والمحمدية، والاتحاد الإسلامي، وذلك في جزيرتي جاوا وسومطرة آنذاك، قبل توسعهما إلى الجزر الأخرى.
إلى جانب تعليم أبناء الجيل الجديد علوم الدين من قرآن كريم وفقه وتوحيد وتاريخ؛ كانت قضية النضال من أجل استقلال إندونيسيا، وبث روح النهوض في إندونيسيا، من القضايا التي شغلت سوركتي ومن معه من قادة الجمعية، لذلك صارت “الإرشاد” جزءا من تيار وطني ضم أيضا المجلس الإسلامي الأعلى في إندونيسيا، وكونغرس مسلمي إندونيسيا.
من جهود سوركتي في هذا السياق، تأسيسه مجلة “الذخيرة” عام 1923 للتوعية بالقضايا الدينية والاجتماعية والسياسية، والتي طبعت خلال عقود ما قبل الاستقلال عام 1945، وذلك في فترة شهدت ظهورا متميزا لعدد من الصحف العربية في إندونيسيا، مثل الإقبال، وحضرموت، والرابطة، والإرشاد، بالإضافة إلى الدهناء.
واليوم وبعد أكثر من قرن ما زالت جمعية “الإرشاد” قائمة بدورها التعليمي والثقافي والاجتماعي، ويدير معظم شؤونها أبناء العرب من حضارمة إندونيسيا.
ويقول النهدي إن للإرشاد اليوم نحو 80 فرعا، ومنها مدارس تبدأ من الابتدائية وحتى الثانوية، إضافة إلى المعاهد الدينية، ومراكز تحفيظ القرآن، والتي تضم أكثر من 25 ألف طالب وطالبة، فضلا عن المستشفيات والمستوصفات، مؤكدا أن أثرها في المجتمع واضح، حيث ينتشر خريجوها في مختلف التيارات السياسية والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص.
علاقته بسوكارنو ووفاته بجاكرتا
يقول رئيس الجالية السودانية في إندونيسيا أيمن أحمد محمد سعيد، إن الشيخ سوركتي كانت له علاقة وثيقة بالرئيس الأول لإندونيسيا أحمد سوكارنو، الذي زاره قبيل وفاته، وكان الشيخ قد فقد بصره، فقال له سوكارنو “يؤسفني أنك لن ترى ما سيتحقق من ثمرة الكفاح وقرب الاستقلال” فرد عليه الشيخ سوركتي قائلا “أحمد الله الذي أذهب بصري وأنار بصيرتكم، ليمكنكم من التخلص من الاستعمار”.
توفي سوركتي في 6 سبتمبر/أيلول عام 1943 بمقر إقامته في جاكرتا، أي قبل عامين من استقلال إندونيسيا، ولا يعرف قبره إلا قلة، حيث أوصى بألا يُشهر قبره بأي كتابة أو تمييز، خشية أن يصبح مزارا.
ولم تكن لسوركتي ذرية، لكنه ترك من بعده ذرية ابن أخيه -جاء معه وعمره 14 عاما- ممن تصاهروا مع الحضارمة من شخصيات الإرشاد المعروفين، وبعض أحفاد أخيه ما زالوا في إندونيسيا وآخرون هاجروا منها.
قصة أول علم للسودان
بعد وفاة سوركتي بعقد ونيف -يقول أيمن سعيد- كانت المحطة الثانية للعلاقات بين البلدين في مؤتمر آسيا وأفريقيا الشهير الذي عقد في باندونغ عام 1955، لتشكيل جبهة دول عدم الانحياز.
مثّل السودان وقتها رئيس وزراء السودان -والرئيس لاحقا- إسماعيل الأزهري، وكانت المفاجأة حينما تقدم وفد الخرطوم بطلب رفع علم للسودان في قاعة المؤتمر، حيث لم يكن السودان قد حصل على الاستقلال ولم يكن له علم.
فتسبب ذلك في إشكال للرئيس سوكارنو، الذي تدخل ومعه عدد من قادة الدول للتوسط بين الوفد السوداني والوفد المصري برئاسة جمال عبد الناصر، الذي كان يرى أن يكون وفد السودان جزءا من الوفد المصري، وأنه لا علم للسودان، بينما رأى الأزهري أن بلاده على أعتاب الاستقلال، ولا بد من تمثيل شعبه في هذا المؤتمر.
وهنا تروى أكثر من رواية عمن أخرج قماشة بيضاء أو منديلا أبيض وكتب عليه باللغة الإنجليزية وباللون الأحمر “السودان”، هل كان إسماعيل الأزهري أم أحمد سوكارنو أم شخصية سودانية أخرى.
“وهذا العلم موجود -أو نسخة منه- في متحف آسيا وأفريقيا، الذي يجسد ذلك المؤتمر بشخصياته وأحداثه في مدينة باندونغ الإندونيسية، ويمثل بعدا عاطفيا لدى السودانيين في علاقتهم مع الإندونيسيين. فنحن نفخر بأن أول علم للسودان تم رفعه هنا في إندونيسيا”، بحسب وصف أيمن سعيد.